صحيح أن أهل الجزائر لا يحبون المدح في الوجه، بل قل: يستحيون منه ويُحرَجون، فهي طبيعة معظمهم - فيما رأيتُ -، لكني في هذا الشهر أكمل ثلاثة أعوام أقمتهما بين الإخوة الجزائريين، وسأتحدث في هذا المقال عن أشياء رائعة رأيتها بينهم، وذلك من باب نشر الحسَن، وشكر المعروف، والتعريف بالبلد وأهله لمن لم يسبق له زيارته، راجياً أن يكون هناك مبادرات مشابهة لسوريين خاصة، ولعرب أو مسلمين عامة في دول أخرى.

 

لا أشك أنَّ الأمير عبد القادر أرسلَ أخباراً كثيرة عن أهل الشام لأهله في الجزائر، حتى إنَّك لترى العرفان لأهل الشام في أعين الجزائريين ظاهراً، فهم يذكرون لهم فضلهم ذاك، ويُكرمونهم لأجله، وواجبنا أن نخبر أهل الشام عن أهل الجزائر كما فعل الأمير رحمه الله...

 

في آخر لقاء لي مع أحد الأساتذة الفضلاء في دمشق يوم كنت أودّعه قال لي: (أسأل الله أن يكتب لك منزلة المهاجرين، ويهيء لك الأنصار!)، وفي أول يوم لي في الجزائر قال لي الشيخ "عمر" أحد الإخوة الجزائريين: (الأرض لله، والحدود للمستعمِر، أنتَ في أرضك وبين أهلك، وإن كنت مهاجراً فنحن أنصارك!)، ثم بعد أقل من أسبوع قالها لي الحاج "عبد الله" الذي استأجرت داراً عنده: (نسأل الله أن يقدِّرنا على الإحسان إليكم، ويكتب لكم أجر المهاجرين، ويكتب لنا أجر الأنصار)، وبحق.. ما رأيتُ من الرَّجلَين إلا ما يُعجِزُني شكرهما، إنني موقن بأنها ليست صدفة!

 

 

عند وصولي إلى الجزائر أمضى عدد من الإخوة الكرام أيامهم في خدمة ضيفٍ ألزموا أنفسَهم بإكرامه، كانوا يتقاسمون المهام، أحدهم "صالح" يسعى لتأمين البيت له ، والثاني "الحاج نبيل" يسعى في تأمين فرصة العمل، والثالث "الحاج فاروق" في إخراجي وأسرتي للنزهة والسياحة ومشاهدة البلد، والرابع "الشيخ عمر" لصحبتي في نهاري مع مركبته لقضاء حاجاتي وتلبية طلبات أسرتي، كانوا يستنفرون فرادى وجماعات للتقرب إلى الله بإكرام ضيفهم، على كثرة مشاغلهم وأعمالهم والتزاماتهم التي عرفتها لما تعمقَت معرفتي بهم.

 

(إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ وحَّد بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرناً، ثم دأبت تلك القرون تمزج بينهم في الشِّدة والرخاء، حتى كوَّنت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصراً مسلماً جزائرياً، أمُّه الجزائر، وأبوه الإسلام).

[العلَّامة ابن باديس]

 

في الجزائر.. ما إن تخطئ حتى تجد من يصوِّب، وينصَح، فإن استجبتَ وإلا ستقرأ اسمك على الجرائد، حتى تكفَّ عما لا يتقبله دينهم ومجتمعهم!

والجزائري حر في كلمته، لا يجد حرجاً أن ينتقدك، أو ينتقد نفسه، أو ينتقد طبيعة الحياة في بلده مستخدماً عبارة (راك في دزاير يا خو)!

 

[الجزائر - قسنطينة]

 

مرة وقفت في قسنطينة لأشتري شيئاً من الخضار اشتهته ابنتي، وكان البائع قد ملأ الأكياس بوزن معيَّن، فطلبت منه مقداراً بسيطاً لتتسلى به ابنتي في الطريق، فأبى إلا أن يملأ لي الكيس بثلاثة أضعاف ما طلبت، ثم أبى أن يأخذ الثمن مع إلحاحي عليه، وقال لي: كل وادعو لي! وأمثال هذا الموقف تكرر!

 

في الجزائر.. بعد أن يشتري الزبون ترى البائع يهديه قطعة مما عنده، مرة فاكهة، ومرة آنية صغيرة، ومرة قطعة حلوى..، وهكذا يشعر المشتري أن ابتسامته عند البائع أهم بكثير من الربح الذي سيجنيه البائع منه.. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى» [البخاري].

 

مرة.. لزمني بعض الأثاث المنزلي، فذهبت مع "صالح" لشرائه كونه صاحب مركبة ذات صندوق (بيك أب)، وبعد أن أمضى معي نصف اليوم بين بحث وشراء ونقل إلى المنزل، ومساعدة في الحمل، فاجأني بعدم قبول أجرة سيارته، ولا هدية لقاء جهده الشخصي طيلة النهار، قال لي: (ادعيلنا برك، انتوما ضيافنا!).

 

[الجزائر - جيجل]

 

أقف مع أسرتي على جانب الطريق لأعبر الشارع، ويأتي أحدهم يقود مركبته مسرعاً، فيضغط على المكابح، وينظر مبتسماً إلى الأولاد، ويشير إليَّ أن اعبر الشارع. وهذا موقف متكرر أيضاً!

طبيعي جداً أن تتابع نظرات العيون في شوارع الجزائر لأطفالك، يبتسمون لهم، يمسحون شعورهم، يقبلونهم، ويدعون لهم: (ربي يصون)، ولربما أعطوهم شيئاً من القطع النقدية المعدنية، واعتذروا إليك لتتفهم  دوافعهم بجبر خاطر الصغار. 

 

في الجزائر.. عندما تشتري الفاكهة يغلِّفها البائع بالجرائد القديمة، مراعاة لخاطر الفقير الذي لا يستطيع الشراء، وستراً لما تُدخله إلى بيتك، وإن كانت شيئاً قليلاً! 

 

في الجزائر ترى العجب من بديع خلق الله في طبيعته، أما الصحراء فيمكن أن ترى الماء ينبع من بين رمالها، وتقطف فيها البرتقال والتفاح، وتأخذ من على رمالها البطيخ، ومن تحته البطاطا، وتنتعش في شمس النهار الدافئة مع النسائم الباردة في ولاية "الواد" في بعض شهور السنة، ومن أعجب ما رأيت في صحراء "جانت" شجرة "الأكاسيا" الساحلية مزهِرة مشرقة، بل ورأيت الأسماك في "إليزي" في البرك المائية الصحراوية...!

 

 

وفي الشمال تأسرك الجبال الخضراء وهي تعانق البحر الفيروزي (بين جيجل وبجاية، أو بين سكيكدة والقل، أو بين وهران ومستغانم، أو بين تيبازة وشنوة)، مشاهد تدفعك للتسبيح، وكم قلت في الجزائر (إن رباً خلقَ هذا لعظيم!)

 

[الجزائر: طريق جيجل - بجاية]

 

رأيت في أهل الجزائر تجسيداً لقوله عليه الصلاة والسلام «احرص على ما ينفعك» فغيرتهم على بعضهم ظاهرة، والسعي في اقتناص الخير لكل واحد منهم واضح، فعندما يفد إلى بلدهم ضيف من أهل العلم يتخاطفه الأكابر، ويستأثرون به لينفع كلٌّ منهم أهلَ مسجده بعلمه به، وهذا ما شكره عدد من علماء الشام في زياراتهم.. فكانت برامجهم تغص بالنشاط!

 

في الجزائر ترى السعي للثبات على الدين، فعندما تصلي الظهر في مسجد يصنف من المساجد الكبيرة، وتقف في الصف السابع عشر ووراءك ثلاثة صفوف، في بلد استنزفه الاستعمار أكثر من 130 سنة، وحول مساجده إلى كنائس، ومارس فيه سياسة تجهيلية وإلحادية وخمة.. ثم سقط بعدها في أتون الحرب الداخلية 10 سنين.. تعلم أن الخير مركوز في هذه الأمة، وأن نور الإسلام سيشع يوماً من بين ثنايا كيدِ أعدائه النتن، ليذهب الزبَد جفاء ويثبت النافع في الأرض.. بعز عزيز أو بذل ذليل.

 

ولعل مما يحفظه كلُّ جزائري قول العلَّامة ابن باديس:

شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن اصله ... أو قال مات فقد كذب

أو رام إدماجاً له ... رام المحال من الطلب

 

 

في الجزائر ترى السعي للثبات على اللغة العربية عند عرب الجزائر واضحاً، وقد أظهر تقرير للمنظمة الدولية للفرانكوفونية نشر بداية شهر نوفمبر 2014م، أن الجزائر احتلت المرتبة العاشرة من حيث استعمال اللغة الفرنسية؛ حيث وضع التقرير نقطة استفهام حول هذه المرتبة التي لاتعكس - حسبه - المدة التي قضاها الاستعمار الفرنسي بالجزائر منذ العام 1830 إلى غاية 1962م، أي: (132) سنة من الاحتلال.

 

كثيراً ما يفتخر الجزائري بوطنه، تحقيقاً لا تصفيقاً، محبةً لا تزلُّفاً، إعلاناً لا تسميعاً.. يكفي أن تذكر الجزائر ليشمخَ الجزائريون، يكفي أن تذكر الشهداء لتدمع العيون، يكفي أن يسمعوا النشيد الوطني ليقفوا قياماً.. يحبون أرضهم، وماءهم، وترابهم الوطني محبَّة نادرة، ليست ككلِّ محبة.. إنك حين تمشي في شوارعها سترى العلم مرفوعاً أينما وقعَت عينك، ستراه على أبنيتهم، على أبواب محلاتهم، على سياراتهم، على ثيابهم، حتى إنك لتراه على قبورهم..!

 

[الشيخ عائض القرني بكى عند سماع النشيد الوطني الجزائري] 

 

في الجزائر.. تشتم أنفاس العزة بين أهلها، مع ما يلامسهم من منغصات العيش غير أن الأنفة والعزة والكرامة فيهم ظاهرة، تخالطها طيبة وفطرة وسجية، ربما هي من نتاج طبع مغاربي، أو آثار من صبا يوم كانت فيه الولايات المتحدة عاجزة عن استرداد أسراها وسفنها بالقوة العسكرية، وكانت تحتاج إلى سنوات طويلة لبناء أسطول بحري يستطيع أن يواجه الأسطول العثماني والبربري اضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع تركيا في 5 سبتمبر 1795 م، وقد تضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية وليس الإنجليزية، تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، ووقع جورج واشنطون معاهدة صلح مع بكلر حسن التركي - باشا الجزائر -، تدفع أمريكا بمقتضاها إلى تركيا على الفور 642 ألف دولار ذهبي، و1200 ليرة عثمانية، وذلك مقابل أن تطلق الجزائر سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين لديها، وألا تتعرض لأي سفينة أمريكية تبحر في البحر المتوسط أو في المحيط الأطلسي. [ويكيبيديا - حرب طرابلس].

 

[صورة المعاهدة الأمريكية العثمانية التي أمضاها والي الجزائر بكلر حسن 1795م]

 

في الجزائر.. ترى الشرطيَّ والدركيّ إنساناً، وباحترام لم نألفه يوقفك ليتحقق من أوراقك، ثم عندما يراك من بلد شقيق جريح يتحول الحديث إلى ما يهمُّك من شأن بلدك، وجرحِ أهلك، وتعاطفه مع قضيتك، وثنائه على ذوق أهل بلدك، تعجَب من ثقافته حين يسرد لك تاريخاً، ومن ابتسامته حين يذكر لك فضل الشام وأهله، ولا يكتم إعجابه بحضارة الشام وثقافة أبنائه، ولا يتستَّر على أخبار كرامٍ منه عاشوا بين الجزائريين في حقبة زمنية معلِّمين ومدرِّسين وعاملين، ثم ترى في عيونه الرغبة في الشكر لك نيابة عمَّن لم يدركهم من أبناء جلدتك!

 

تأسرك في الجزائر الصراحة والوضوح والاختصار، فالجزائري يوصل لك المراد بطريقة بسيطة ومباشرة ومن دون مقدمات.. هكذا الأمر، مثلاً:

بعد جهد جهيد في أمر ما يصفون انتهاءه والفراغ منه وزوال الهمّ به بكلمة واحدة: (فرزت) (صاي).

تريد أن تطمئن عن حاله المعيشي فيقول: (ما عنديش وما خصنيش) أي: ليس عندي مال، ولكن لست محتاجاً للمساعدة!

تسأله عن حاله وحال أهله فيقول: (ما عندناش صحيح، وما عندناش ميت)، أي: أصابنا بعض المرض، لكن لم يمت منا أحد! فلا زلنا أحياء!

 

من لطائف التحقيق بالأمر: أن يسرد القاصُّ الجزائري الإلحاح بالسؤال والجواب بقوله: (سبحان الله! راهو هبَّلني.. كيماه وزيماه، وكيفاش، ووقتاش، وعلاش؟! أوووه) طبعاً والكلمة الأخيرة تحتاج زيارة للجزائر لتعرف المراد منها وطريقة نطقها !

يا زائر الجزائر: سترى أهلها يلحقون بك في كل مفصل من مفاصل شأنك، وكل زاوية من زوايا بلدهم، ليأسروك بفضلهم، ويخجلوك بمحبتهم وعطفهم ورعايتهم.. ويأبى أهل الجزائر إلا أن يكونوا كذلك.. سجيةً لا تكلفاً.. 

أحمد الذي جعل لنا في الجزائر أهلاً وإخواناً، وأعمالاً وأرزاقاً، ومتَّع عيوننا بجمال هذا البلد الطيب، وأثرى عقولنا بعلم أهله، ونفوسنا بفضائلهم! وأسأله بفضله فرَجاً عن الشام وأهله، وأن يجمعنا بأحبابنا سالمين.

شكراً يا أهل الجزائر.. أقولها عن كلِّ ضيف نزَلَ بلدَكم الكريم، وأَنِسَ بأهله، ورتَع بفضله، وتمتَّع برؤية «الخضرا»، وشمَّ عبيرَها وذاقَ ملحَها وماءَها.. كفاكم الله شرَّ أعدائكم، وأدامَ الأمان على بلدكم. 

شكراً لكم يا أباة الضيم ما رُفعت ... أعلامكم وسيوف الله تحميها