حان وقت خروج ابنتي من مدرستها، كنت متأخراً عليها بضعة دقائق، وقريباً من مدرستها استوقفني شرطي المرور وسط تقاطع خطير؛ يجمع أربعة اتجاهات متعاكسة، أنزلت زجاج السيارة، ابتسمت، وألقيت عليه التحية، ومضيت لأتجاوز التقاطع وأركن سيارتي جانباً، وأرجع إليه، تفاجأت أنه سخط جداً من تجاوزي له، وكأنه شعر بالإهانة حين ألقيت التحية من دون أن أتوقّف بجانبه، كانت أول كلمة قالها لي: أنا موظف دولة عليك أن تحترمَه، لستُ خادماً عند أبيك حتى لا تتوقف عندي وتنظر ماذا أريد! فاعتذرت إليه أني لم أقصد ما فَهِم، وشرحت له أني أبعدتُ مركبتي من التقاطع الخطير حتى لا يصدمَها أحد! فكان جوابه: عليك أن تقف، ولو قدَّر الله عليها حادثاً فلا يغني حَذَر عن قدر، يكون: قدَّر الله وما شاء فعل!

ارتبكت في ذهني عشرات المعاني، وشعرت بالمسافة الفكرية التي أحتاج أن أقطعَها لأشرح له سوء تحليله للموقف، وفضَّلت الاعتذار لأمضي وأحضر ابنتي التي تنتظرني أمام مدرستها!

 

(قدّر الله وما شاء فعل) عبارة نقولها عندما نخفق في أمرٍ ما.. مع أننا نحن من خطط ونفذ!! نحن من أساء وقصَّر، ثم أخفق..!

ورد ذكر القضاء في القرآن الكريم بالمعنى المستخدم اليوم عند قوله تعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]، وتكرر ذلك أربع مرات([1])، كما ورد بمعنى الإخبار: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66]، وبمعنى الأمر والتوصية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، وبمعنى إنهاء الشيء: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23].

والقضاء هو وسيلة وقوع القدر، فالموت - مثلاً - قدر، والقتل قضاء يقع به ذلك القدر، والمرض قضاء أيضاً، وطول العمر وقِصره قضاء أيضاً.

 

قدَر الله: أنه خلقنا من ضَعف، فعجزنا عن الإحاطة بعواقب الأمور، وكان لا بد من خسائر حتى نحيط بالحياة خبراً، وإلى ذلك الحين؛ نرى اللطف يحفّنا على ضعفنا وجهلنا وقصور فهمنا، فالمقسوم لنا لخير، والممنوع عنا لخير، ونحن نقدم الأسباب ثم نعتمد على خالقها لتحصيل النتائج، وإن وقع الخلل أعدنا النظر في الأسباب وصحَّحنا خط المسير، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

لكن هذا لا يعني أن قدر الله حدَّد من حريَّتك، وأنقص من مساحة اختيارك.. فأنت تكتب قدرك باختيارك الكامل وإرادتك الحرة التي أرادها الله لك وامتحنك بها، لتثبت صفاتك في الآخرة بتصرفاتك في الدنيا، لا بما كتب الله عليك في كتاب قدرك، «وإن الرجل ليصدق حتى يُكتَب عند الله صديقًا...، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتَب عند الله كذابًا» [متفق عليه]

 

هل يعني هذا أنه يجب أن نحذف عبارة (قدَّر الله وما شاء فعل) من أذهاننا ولا نرددها؟

ليس المطلوب ذلك قطعاً، فاللفظ وارد في الصحاح، ففي حديث مسلم: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: (قدَّر الله وما شاء فعل)، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»، لكن المقصود عدم استعمال اللفظة لتبرير الفعل البشري بالإرادة الإلهية للصق التهمة بالقدر، والتملص من المسؤوليات وإسكات المطالب أو المتضرر.

ومن اللافت في هذا الحديث الشريف أنه يعالج نقطة دقيقة جداً، يمنع المسلم من الندم على ما فات - استناداً لجملة الاحتمالات الممكنة -، ويأمره بالتسليم والرضا بما كان دون أن يفتح مجالاً لعمل الشيطان، ثم يبدأ من جديد بعد الاستفادة من الدرس، مستعيناً بالله راجياً أن يكون ما بعد التجربة خيراً مما قبلها، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف: 23، 24].

 

والقدر كما هو معلوم أمور أربعة:

1- علم الله بالأشياء قبل كونها.

2- كتابة كل ما هو كائن قبل أن يكون.

3- مشيئة الله للأشياء قبل وقوعها.

4- خلقه للأشياء وإيجادها.

 

والأقدار في الحياة على ثلاثة أقسام:

- القسم الأول: أقدار ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير، ليس لابن آدم فيها دور:

كحركة الشمس والقمر، وتعاقب الفصول، وحركة الزمن...، ويدخل فيها أيضاً الزلازل، فمن الثابت في القرآن الكريم أن الناس إذا أعرضوا عن الله تعالى ومالوا عن الحق إلى ملذاتهم وأباطيلهم عاقبهم الله بذلك بلاءً، كزلزال أو فيضان أو ريح أو حرب مفاجئة، ومثال ذلك قوم سبأ {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16].

فالزلازل - الكوارث - البراكين... قدر الله أن يقهرنا بحركتها، وأن لا يكون لنا دخل فيها، لعلنا نستطيع تفسيرها، أو التنبؤ بها، أو الاحتراز النسبي منها، لكننا لا نستطيع إيقافها ولا التحكم بها بشكل واضح -حتى الآن-، وهذا القانون (والقانون هو علاقة ثابتة بين متغيرين) ماضٍ في الأرض، وهذه السنة ثابتة لا تتغير: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} كالصواعق والصواريخ والقصف {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كالزلازل والخسف والانفجارات والبراكين وانجراف التربة... {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} كالغزو والحروب الأهلية {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].

لكن إسقاط كل صاعقة أو حرب أو كارثة طبيعية في سياق العقوبة من دون أن يرد بها نص ثابت واضح محكَم.. إسقاطها هو نوع من الكذب على الله، فمثل ذلك وقع للأنبياء وأتباعهم من الحروب والحصار والفاقة والابتلاء... وكل ذلك لم يكن في معرض العقوبة!

 

قد يهمك: (بين مطرقة الساسة وسندان القدَر)

 

- القسم الثاني: أقدار بيد الله تعالى، لابن آدم فيها دور جزئي:

فقد أذن الله له أن يطلب تغييرها منه تعالى، فتتغير بمشيئة إلهية ضمن الأسباب الأرضية، كنزول الغيث؛ يصلي لأجله الإنسان ويطلبه، فيحرك الله أسبابه بأمره، ولذلك شرعت صلاة الاستسقاء. ومثله البلاء يدفعه الإنسان بدعائه([2])، وحادث يلطف الله عند وقوعه بطلب العبد أو استحقاقه ذلك اللطف، لكن هذه الأقدار تكون بمحض الرحمة الإلهية طلبها العبد أو لم يطلبها، فإن طلبَها نال أجر الطلب، إجابةً عاجلة أو مؤجلة، أو أجراً، أو تعويضاً([3]).

 

بعضنا يظن بأن الإيمان بالله داخل في هذا القسم، بأنه هداية من الله، له فيه تأثير جزئي، وهذا الخلط واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أخبره القرآن الكريم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148، 149]

 

للأسف، حتى بعض المسلمين يظن بأن الكافر قدَّر الله عليه كفره وحجبه عن هدايته، مستشهدين بقوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 7]، مكتفين بهذه القراءة الساذجة عن المعنى الحقيقي؛ وهو أن ربنا سبحانه وتعالى له في الحياة سنن، وله قوانين، وله مبادئ، وله قواعد، وهي تقتضي أن من يكذب برسالات الله عز وجل؛ فإنه يشقى في الدنيا والآخرة، ولقد حقت هذه القاعدة على أكثر كفار مكة، وطُبِّقت عليهم، لا كما يقول بعضهم: إن الإنسان خلق كافرًا، وقد حق القول عليه أن يكون كافرًا، وأن يخلد في جهنم، فلو كان هذا صحيحاً فما معنى إرسال الرسول وإنزال الكتاب إذًا؟! إذا كان الكافر ما كفر إلا لأن الله قدر عليه الكفر، وانتهى الأمر؛ فما معنى إبلاغه؟! أيُعقَل أن يكون ذلك لإقامة الحجة عليه؟! ولماذا الحجة إن كان مقهوراً على كفره مساقاً إليه؟!

 

- القسم الثالث: أقدار يباشرها الإنسان باختياره:

وهذه الأقدار أحصاها الله في سابق علمه، وسمح للإنسان أن يقضي فيها ويمضي، ويُعمِل عقله وفكره وخبرته، ويؤثر فيها بشكل مباشر، وهو مثاب عليها أو معاقب، ومسؤول عن نتائجها بين يدي الله تعالى.

لكن هناك خلط عند بعض المسلمين بين ما يقع للمسلم في الحياة الدنيا من امتحانات وبلايا نتيجة قلة خبراته أو سوء تدبيره أو فتنة الناس ببعضهم ومكرهم فيما بينهم، وبين مراد الله له وقدره فيه، بمعنى: أن يجعل ما يصيبه من الأذى وما يتسببه لنفسه من المتاعب وما يقع له من بلاء الناس نتيجة تعديهم وفساد ذممهم... عقاباً من الله وتأديباً منه، فيرد النازلات إلى مولاه من باب أنها من القدر الذي لا يجوز فيه إلا الرضا، ويشرد باحثاً عن أسباب ابتلاء الله له، فإن لم يجد قال: لعل الله صرف عنا بهذا البلاء بلاء أكبر!

وكأن الله سبحانه هو المسؤول عن أخطائنا بحق أنفسنا وبحق بعضنا، وله في تقصيرنا وقلة تدبيرنا وضيق أفقنا وضعف تفكيرنا وتسرُّعنا واستعجالنا.. حكمة بالغة!

 

نعم، قد يؤدب الله خلقه بالحوادث الأرضية، يمنع رجل الزكاة فيدفع المبلغ نفسه لعلاج صحي، يسرق فيدفع المبلغ لصيانة سيارته من حادث مروري، يحرم أخته الميراث فيدفع ذلك المبلغ للتحاليل في الغرب يتأكد من سلامته من مرض أوهمه أحد الأطباء به وخوفه منه... المشاهد كثيرة، والجزاء من جنس العمل، بهذه الحكمة تجري المقادير، يهيئ الله لها أسبابها، لكنها تكون واضحة لصاحبها أو لمن حوله، ويشهد لذلك حديث مسلم: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه».

وهذا ما يسميه بعضهم (يد الله التي تعمل في الخفاء)، لكن هناك نوع آخر من الحوادث يكون المسؤول عنها عنصر بشري، قصَّر -بوضوح- أو تعدَّى أو أخطأ، فوقع الحادث، لذلك يضمن البشر الخسائر ويدفعون الديات ويتقاضون فيما بينهم بحكم الشريعة.

 

هل هذا يعني أن الله تعالى لم يقدر ذلك؟

الجواب: لا، قدَّر الله ذلك، بمعنى أنه علِم وقوعه قبل أن يقع، وأذن لوقوعه في مُلكه، لكن الأمر وقع بوسيلة هي تصرف بشري، وقع في دائرة الاختيار الذي منحه الله للآدمي، وسمح الله له به أن يؤثر في عدد كبير من مفردات الحياة، فقد علم الله ذلك قبل وقوعه، وكتبه قبل أن يكون، وشاء الله وقوعه (بغض النظر عن رضاه عليه أو سخطه منه)، وخلقه وأوجده بوسيلة.

 

طبعاً.. لسنا مختلفين على الأجر والثواب على المصائب مطلقاً، فالحديث واضح: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه؛ إلا كفر الله به سيئاته» [متفق عليه]، وفي رواية الإمام أحمد: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها؛ الا كفر الله من خطاياه».

لكن المشكلة التي نعالجها: إلصاق الأفعال البشرية بمباشرة إلهية، يعني: (الله قدر، أنا لا علاقة لي، سيارتي -مثلاً- ضربت سيارتك؛ لأن الله قدر عليك ذلك!) هذا ما أود معالجته.

 

كيف نفرق بين الامتحانات والبلايا نتيجة قلة الخبرة أو سوء التدبير أو فتنة الناس ببعضهم ومكرهم فيما بينهم، وبين مراد الله للإنسان وقدره فيه؟

إننا ندرك الفرق بينهما حين ندرك الفرق بين العبارتين الآتيين:

- لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخفت أن أُسأل عنها: لمَ لم تعبد لها الطريق يا عمر؟

- لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لقلت: قدَّر الله وما شاء فعل!

 

 


([1])  سورة البقرة [الآية:117]، وسورة آل عمران [الآية:47]، وسورة مريم [الآية:35]، وسورة غافر [الآية:68]

([2]) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين [2/ 380]، وصححه، ووافقه الذهبي.

([3]) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يدعو الله بدعاء إلا استجيب له، فإما أن يعجل في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل». قالوا: يا رسول الله وكيف يستعجل؟ قال: «يقول: دعوت ربي فما استجاب لي». أخرجه الترمذي في جامعه [5/ 583]، والطبراني في المعجم الأوسط [1/ 53].