رسالة مفتوحة إلى الشيخ الطبيب محمد خير الشعال - حفظه الله ورعاه -.

 

شيخي الفاضل، أستاذي المكرَّم:

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

ترددتُ كثيراً في كتابة هذه الرسالة إليكم؛ فقد كنتُ لا أرى الباطل الذي يَذيع في الفضاء الافتراضي يستحق أكثر من الترك حتى تخمد ناره ويبرد أواره وتُمحى آثاره، لكنَّ نافخي الكير لا يكلُّون في إذكائه ولا يمَلون من إفشائه ليحرقوا به ما تبقى لنا من جمال بلدنا وامتزاج لُحمتنا وتماسك أزرنا، في وقت تحتاج بلدنا فيه إلى ما وجَّهتنا إليه من (التعاضد والتساعد)، و(السماحة والتسامح)، و(حفظ الكلمة) و(حسن الكلمة)، و(اللطف) و(العطاء) و(السلام)، و(التحبب إلى الآخرين)، وإفراغ الوسع في مبادئ التعامل مع الأزمة من (التكافل الاجتماعي)، والجد في (فعل الخير)، والتفكير (كيف أخدم بلدي؟)، وسد سبل (الفساد)، وترسيخ (أسس الإصلاح) وغيرها من القيم والمبادئ التي طالماً ركزتَ عليها.

أسرفوا وتجاوزوا حد الأدب واللباقة، وافتقدوا لأبجديات (الكلام الرصين)، عاجزين عن التخلص من (سيطرة منهج الهجاء على السلوك العام)، قارعين طبول (الحِدَّة عند الخصومة)، مفتقرين إلى الحد الأدنى من أصول (فقه الأزمة)، ساقطين في (المغالاة) المذمومة و(الاعتداء) اللئيم جهلاً وانفعالاً وسفاهة كما ذكرتَ يوماً في أسباب (الغلو) والمغالاة.

 

فما أبهى ما قدّمته للبلد وأهله، وما أجمل ثمار عملك وعقلك التي بدأ صلاحها يبدو في تربة أهل العقل والوعي والعمل، وما أقبح نكران أشباه العُمي لما زرعتَ من وعي، ورسّخت من أمان، وخمَّدت من فتنة.

 

إن تحطيم القدوات ومعاداة الثقاة وإفسادَ عملِ المصلحين ديدن المجتمعات المتخلفة التي لا ماضي لها ولا حاضر،  وأني لأوقن أن الأمر في سوريا على غير ذلك، ولا غنى للبلد عن أمثالكم؛ ولا مر عليها أمرّ من (فقد العالم) الذي مراراً ما افتقدته بدراً في لياليها الظلماء وساعاتها الحالكة، واحتاجت رأيه وكلمته ليسير المركب ويسلم الركَّاب، خاصة وأننا نرجو أن نكون على أعتاب النور في نهاية النفق.

وليس من الحق أن يَترك أهل الحق ساحة التعبير ومساحة التأثير في الظروف القاسية لأهل الباطل، ينصّبون فيها أنفسهم خصوماً وشهوداً وقضاة، يزيغون فيها حقداً وحسداً وغلاً واستهانة، يسعون إلى تقزيم الأكابر من الفاعلين، ووصمهم بالنقائص، ويخترعون لهم المساوئ، كل ذلك لتورية عظمة المؤثرين في نفوس المتأثرين، بُغية أن يعزفوا عنهم، وينصرفوا عن اتّباعهم، وتهتز ثقتهم بهم، فيكون هذا مقدمة لاهتزاز ثقتهم بدينهم، واندفاعهم للبحث عن قدوات آخرين يكونوا على غير شاكلتهم من الغيرة والحق والوعي والدين.

 

يا للعجب! كيف خافوا مُكنة الحق بعد ما كابده بلدنا وقاساه أهلُنا من جولات الباطل وصولات أهله!

هل تُراهم أرادوا أن يمثلوا دور النائحة أمام الثكلى؟ ويأخذوا دور الغيرى أمام الرؤوم؟!

لكأنهم لم يذوقوا بعدُ مرارة الطائفية ولا عاينوا دعواتها المفضوحة؛ حتى اضطر بعضهم اليوم أن يلوي عنق الحديث ويحمّل الكلام ما لا يحتمل ويجرّه إلى غير موارده؛ ليلبسه - زوراً وبهتاناً - خلعة الطائفية المقيتة، ويتهم المتكلم والحضور والمستمعين والوزارة والدنيا كلها أنها لم تفهم ذلك المغزى النفيس الذي قرأه عقله الخبيث بين السطور!


لكأنهم أحرص على (دمشق) من جليل شيوخها ونخبة عقولها! فليتعلموا حبَّها - إذاً - من سيرة الشيخ فيها، وجهده بين جنباتها، وأثره في أهل (الياسمين الشامي)، وليعلموا أنه (لا يحيق المكر السيء إلا بأهله). 

هل تُراهم خافوا من الإسلام الذي خالطوا أهله قروناً سالمين؟ ومنذ متى يخاف (غير المسلمين في المجتمع المسلم)؟ أم جهلوا جلال (حقوق الإنسان في الإسلام

ألم يعوا بعد أنه (لا خوفٌ عليهم في أيِّ مجتمع يتفيأ ظلال الإسلام، إنَّما الخوف كل الخوف من أقوام ينشرون الذُّعر في القلوب، ويفرقون بين المجتمعين باسم الأقلِّيات أو الطَّوائف أو المغايرين بالرَّأي أو الاعتقاد...، وإنَّما الخوف كل الخوف ممن ينشر الظُّلم أو يرعاه، ينشر الفساد أو يرعاه). كما ذكرتم في خطبتكم (السَّيِّد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام).

 

سيدي الفاضل:

حين رأيتُ جهدهم في تعكير صفو الحق وتشويه صورته، ورأيت غبارهم اعتلج في حلوقهم بعد أن عجّ من ضَبحِ عَدْوِكَ وتتالي خَطوك، رأيت أني أولى من يكتب إليكم وأنا الذي أمضيت ثلث عمري أقربَ ما أكون إليكم؛ حين شرفتموني بإدارة مكتبكم العلمي، ومرافقتكم في حضركم وسفركم، فكنتُ - على ما أظن - من أقرب الخلق إليكم قلباً وعقلاً، وأمضيت سنيناً عاينتُ فيها أحوال الشيخ وهمَّته، وهمَّه وبُغيته، ومرضه وصحته، وسفره وحضره...، واستفدتُ آلاف الدروس التي تعلمتُها منك - سيدي -؛ من مواقفك، وردودك، وانتباهاتك، وحكمتك، وتعقيباتك، وتعليقاتك، وتوجيهاتك.. ولا أراني اليوم إلا ثمرة من ثمارك، إن قبلتَ بمثلي فرعاً لأصلك الطيب.

 

 أُشهِد الله أني ما رأيتك يوماً تدعو لذاتك أو لتمجيد شخصك، ولا اكترثتَ يوماً بتكثير سواد الحشد حولك، ولا فرضتَ رأياً ولا صادرتَ عقلاً، إنما كنتَ مثالاً لصاحب الفضل والأخ الشفوق، والمتابع الرحيم، مع أدب ولطف ولين جانب.

 

وليس مثلي من يقول لمثلك: امضِ، {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .. فأنت ماضٍ بي وبغيري، ماضٍ بنصح حبيب وبلؤم عدو.. لكني أؤدي بذلك واجباً، وأعترف بجميل، وأقبّل جبين همة عزَّت في أيام دهرنا هذه.

 

سألت الله لك ما عهدتكَ تسأله: أن يجعلك من أوليائه الذين خبأهم في خلقه، ومن أحبابه وطلابه الذين اصطفاهم وشرَّفهم بعلو الهمة في الإقبال عليه، مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وأن يستخدمك صالحاً فتعيش من أجله وفي سبيله، وأن يعينك على ما تعبّدك به من دلالة الخلق عليه، وأن يكون معك بتوفيقه ولطفه ومعيته، ويشغلك بحضرته، ويأخذ همّك منك إليه، ولا يجعل فيك حظاً لغيره.

وأسأله أن يجعلني على قدمك وخطوك، وينفعني بما أكرمني فيه من صحبتك.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته