بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، الذي هدانا للإيمان، وأكمل لنا الدين والإسلام، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرحمة المهداة، الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وأسوة للناس أجمعين، فأدى الأمانة، ونصَحَ الأمة، وجاهَدَ في الله حقَّ جهادِه، ثم لحق بالرفيق الأعلى راضياً مرضياً، وقد تَرك الأمة على محجَّة بيضاء: ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالِك، ورضي الله عن الآل والأصحاب، وبعد:

 

أرحب بكم سادتي في هذا اللقاء الطيب، والذي أرجو الله أن ينفع به، ويكون لبنة حاملة وخطوة موجِّهة مؤثرة في خدمة هذا الدين.

عنوان هذه المشاركة: "التديّن قوة والتزام".

 

أخي الكريم: هل أنت متديّن؟ هل يوافق سلوكَك نيتَك في هذا الميدان؟

هل التديّن نشاط قلبي روحي، يخفى أثرُه للعيان، ويبقى الشاهدُ على ادعائِه أخروياً؟

 

سادتي الأفاضل:

التديّن قوة في العقيدة، قوة في العلم، قوة في السلوك، قوة في الحياة..

قوة في الإقبال على الله، وقوة في فهم القوانين الإلهية التي تحكم الكون..

قوة دنيوية، وقوة دينية، وقوة روحية، وقوة قلبية..

 

التديّن قوة دنيوية، وسلفنا الدليل، فلقد كانت أسماء أوليائنا وأكابرنا وفقهائنا وعلمائنا تعانق بهاماتهم العلمية قوة الصناعة والتجارة، واقرؤوا إن شئتم:

الجصاص (صانع للجص "الجبس")، الخصاف (خارز النعال)، القفال (صانِعُ الأَقْفال)، البقالي (بائع البُقول)، النعالي (صانِعُ النِّعال وبائِعُها)، الحلواني (صَانعُ الحلْوى وبائعُها)، العطار (بائعُ العِطْر، ويُطلَقُ على بَائِعُ التَّوَابِلِ)، الصيدلاني (من يُعدُّ الأدوية ويبيعها)، الصيرفي (من يُبْدل نقدًا بنقد)، والساعاتي، والصباغ، والنجار، والعشِّي (من يعد العشاء)، والقباني (صَاحِبُ القَبَّانِ)، والطيان، والكيال، والحبال، والقطان، والصواف، والزيات، والكوَّى، والليموني، والنحاس، والنفاخ (ينفخ الزجاج المصهور)، واللحام، والطباع، والرز، وسكر، وأبو برغل، ودبس وزيت، والحكيم، والخياط، والخيمي، والسيوفي، والعسلي، والقباقيبي...

هذه الأسماء والألقاب والكنى رسالة لكل طالب علم ومنشد ولاية: أن احذر الكذبة المسماة: "التفرغ للعبادة أو التفرغ لطلب العلم"، واكفِ نفسك، وأقم حياتك بكدِّك وجهدك عصامياً متوازنا بين حاضرك ومستقبلك.

 

مخطئ كل الخطأ من ظن أن هذه الإنجازات الفريدة لهذه الهامة كانت قائمة على مجرد دعوة في جوف ليل، أو دمعة تسقط ساخنة على أعتاب جبار السماوات والأرض، أو سبحة تهز القلب واليد، أو صفاء روح ونقاء قلب وحسب.. بل كان ذلك مدعوماً بقوة علمية ومالية وتحضيرية وتخطيطية وتجهيزية عالية المستوى، مع التزام دقيق بأمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتؤتي بعد ذلك الطريقة أكلها وتؤدي دورها في هذا الإطار.

 

الإسلام - يا معاشر السادة- أمور ثلاثة: (عقيدة وشريعة وأخلاق).

أما العقيدة: فإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر..

وأما الشريعة: فأبواب خمسة: (عبادات ومعاملات وقضاء وسياسة شرعية وأحوال شخصية)

وأما الأخلاق: فقسمان: ممدوحة ومذمومة.

 

فالمتديّن: ذو عقيدة راسخة شامخة، لا تهزها الطوارئ ولا تغيرها النوازل.

 

والمتديّن: ملتزم شريعة ربه، لأنه طامح للقرب منه، ولا يصح التقرب إلى الله بغير ما شرع الله، قال ابن رجب الحنبلي: (أصلُ الموالاة: القربُ، وأصلُ المعاداة: البعد، فأولياءُ الله: هم الذين يتقرَّبون إليه بما يقربهم منه، وأعداؤُه الذين أبعدهم منه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم عنه)..

المتديّن ملتزم في عباداته: (صلاته وصيامه وزكاته وحجه...)

وفي معاملاته: (بيعه وشرائه ووكالته وكفاته واستئجاره وقرضه...)

وفي أحواله الشخصية: (أسرته وميراثه وحقوق زوجته وأولاده وأداء واجباته نحوهم)

وفي قضائه: (فلا يرضى غير شرع الله حاكماً في شؤونه، ولا يتتبع الثغرات القانونية ليتحصل من وراء هفوات الأرض على ما لا يحق له في ميزان السماء).

وفي أموره السياسية: وأظن بأن مآثر الشيوخ كانت أظهر ما تكون في الثورات الشعبية، والحركة الوطنية في الثورة التحريرية، أولئك الذين كانوا خير خلف لخير سلف، فأفلحوا في هذا الميدان وتركوا الأثر في هذا الصدد كابراً عن كابر، واستقامت محاكماتهم وسلوكاتهم كما استقامت قلوبهم ونواياهم، ولولا ذلك ما كنا نجتمع اليوم مفتخرين بقدوتهم وشيخهم، منقبين في فكره متبصرين في نهجه.

 

لو أن أتباعهم سلكوا مسلك العنف الذي بتنا نراه اليوم في دول عربية وإسلامية في فظاعات تصدر عن وحوش ملحقة بالجنس البشري، تبثها فيديوهات موجَّهة أو مسربة يقطر الإجرام من أركانها.. لو كانوا كذلك هل كنا لنلتقي هذا اللقاء؟

لو أنهم اتبعوا سياسة المواقف المخزية والمبادئ اللئيمة والتصرفات الشنيعة التي ترفع السلاح وتهرق الدم وتدنس العرض، والشعار فوقها دائماً "الله أكبر" إساءةً وغلظةً وجهلاً... لو كانوا كذلك هل كنا لنلتقي هذا اللقاء؟

 

لو أنهم اكتفوا بمنصات الكلام دون العمل، وراحوا يسوقون فلسفات المنظِّرين المثقفين الآمنين ذوي البطون الملآى والجيوب العامرة.. التي تقابل تأوهات الخائفين الجائعين المكلومين المظلومين، والتي عانت ويلات المستعمر، وراحت تذبل شيئاً فشيئاً حتى خفتت مقهورة، لتطرق سمعاً تبلد وتصادف دماً تجمَّد.. لو كان الحال هكذا هل كنا لنجتمع اليوم؟

 

لما نصروا الله نصرهم، ولما التزموا أمره أسرع في إبلاغهم الآمال، وكما قال اللهَ تعالى لموسى عليه السلام حين كلًّمه -كما روى الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن وهب بن منبه- قال: «اعْلَم أن من أهان لي ولياً أو أخافَه فقد بارزني في المحاربة، وعاداني، وعرَض نفسه ودعاني إليها، وإنَّ أَسرع شَيءٍ إليّ نصرةُ أوليائي، أفيظنُّ الذي يحاربني أن يقومَ لي؟ أوَ يظن الذي يعاديني أن يعجِزَني؟ أوَ يظنُّ الذي يبارزني يسبقني أو يفوتني؟ وكيف؟! وأنا الثائر لأوليائي في الدنيا والآخرة، فلا أوثر نصرتَهم إلى غيري».

 

إذا.. المتديّن هو رجل الالتزام عقيدة وشريعة وأخلاقاً.

المتديّن: عقل يدقق، وروح تحلق، وسلوك متخلق.

المتديّن: عقل سليم، وخلق قويم، وقلب فياض بالأنوار.

 

وأخيراً:

إذا أردت أن تكون مسلماً حقيقياً فلا بد لك من أمور سبعة تدرك بها -ما صدقتَ- مراتب الأولياء:

 

1- إتقان الفرائض:

 

والمطلوب هو الإتقان وليس الأداء، ما الفارق بين أداء الصلاة، وبين إتقان الصلاة؟ إنك لو استعرضْتَ آيات القرآن الكريم كاملةً، لرأيت الله عز وجل يأمرنا في القرآن الكريم بإقامة الصلاة.

قال القرطبيُّ المفسر: (إقامةَ الصلاة: أداؤها بأركانها، وسننها، وهيئاتها، في أوقاتها).

 

رأى النبيَّ صلوات الله وسلامه عليه رجلاً يصلِّي في مؤخرة المسجد، فلما جاء الرجل ليجلس أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهائه من الصلاة، قال له صلوات الله وسلامه عليه: «قم فَصَلِّ، فإنك لم تُصَلِّ» - مع أن الرجل تحرك كل حركات الصلاة- عاد وصلى كما كان يصلي، ثم رجع إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال له صلوات الله وسلامه عليه: «قم فَصَلِّ؛ فإنك لم تُصَلِّ»، فعاد الرجل ثالثةً فصلى، وعاد إلى مكانه في المجلس، فقال له: «قم فصلِّ؛ فإنك لم تصلِّ» [متفق عليه].

 

صلى رجل أمام سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فلم يتقن صلاته، فقال له حذيفة: (منذ كم وأنت تصلي هذه الصلاة؟) قال: منذ أربعين سنة. قال حذيفة: (ما صَلَّيْتَ، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمتَّ على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم).

 

وقف سيدُنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً على المنبر فقال: (إن الرجل لَيشيبُ عارضاه في الإسلام، وما أكمل لله تعالى صلاة واحدة)!

 

2- ترك المحرمات:

 

الإسلامُ أمران: أفعالٌ، وتُرُوك، أمورٌ ينبغي عليك أن تفعلها، وأمورٌ ينبغي عليك أن تترُكَها، ولئن كان فِعلُ المأمورات مهماً، فإن ترك المنهيات مهمٌّ أيضاً، ولعلَّه يكونُ أكثر أهمية، فالإسلامُ تخليةٌ وتحلية، تخليةٌ عن الرذائل، وتحلية بالفضائل، ولئن كان التحلِّي بالفضائل مهماً، فإن التخلي عن الرذائل مهم أيضاً، ولعله أن  يكون أكثر أهمية.

 

أتدرون ما الفارقُ بين المسلم المنضبِط بأوامر الشرع، والمسلم غير المنضبطبأوامر الشرع؟ إنه الحلال والحرام، المسلمُ المنضبط يحلِّلُ ويحرِّم، والمسلم غير المنضبط لا يحلل ولا يحرم، إذا دَعَتْهُ مصلحته إلى فعلٍ فعلَهَ سواءً كان حلالاً أو حراماً، فِعْلُه لا ينضبط بأوامر السماء، لكنه ينطلق من هواه وشهوته ورغباته.

 

شعارُ المؤمن أيها الإخوة: (أمَّا الحرامُ فالمماتُ دُونـَه)، وشأن غيره أن يتخذ إلهه هواه.

 

3- أداء النوافل:

 

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً، فقد آذَنْتُه في الحرب وما تقرَّب عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويده التي يبطِشُ بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، وإن استعاذني لأعيذنَّه».

 

4- التزام مجالس العلم:

 

إنك لا تجد ولياً إلا وهو عالم أو متعلم، لذلك قالوا: (ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلّمه).

وإن طريق الله تعالى لا تُقطع إلا بجناحين: (علم وعمل)، انظروا إلى سير الأولياء كلهم بلا استثناء تجدون خلف كراماتهم يتربع العلم.

 

5- ذكر الله:

 

يقول الله تعالى: «إن أوليائي من عبادي، وأحبائي من خلقي: الذين يُذكَرون بذكري، وأُذكَر بذكرهم» [أحمد]

أوصى الله تعالى موسى عليه السلام: يا موسى، إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمت بين يدي فقم قيامَ العبد الذليل، ونادني بقلب وَجِل، ولسان صادق.

 

6- الأدب:

 

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أكثر ما يدخل الناس الجنة: تقوى الله، وحُسْنُ الخلق» [الترمذي].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أحبَّكم إلى الله وأقربَكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنُكم أخلاقاً» [الترمذي].

 

7- محبة الصالحين وصحبتهم:

 

وها قد أكرمني الله بصحبتكم، وأني أحبكم في الله، وإني لأرجو الله تعالى أن يكتبني مع أوليائه بمحبتكم وصحبتكم.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته