في محطة ما.. تكتشف أنك في الموقع الخطأ على خارطة الحياة بعد أن يمشي بك قطارها سنين!
تتفقد رصيد ذاتك فترى ما تبقى فيك من الطاقة والإرادة والإمكان والوقت... لا يكفي لشق سبل جديدة تأخذك إلى موضع جديد وتجربة أخرى!
تنظر إلى نفسك التي بات ما يُمتِعها نادراً.. وما يُفرحها عابراً.. لتراها تغض طرفها عن أبواب الخروج الموصَدة بالدِّين والمسؤوليات.. ولكنها في ذات الوقت لا تستطيع المجابهة ولا المتابعة، ولا التوقف، ولا التراجع.. تفتح أبوابها لمخزون ضخم جداً من التفكير والهمّ والقلق والإحباط..
تسرق لحظات الوحدة والخلوة لتطوف بين ذكرى الماضي وبين البحث عن وميض أمل في المستقبل.. فلا ترى أفقاً ولا مخرجاً، لتعود وتسأل السؤال نفسه: لماذا؟ ما السبب؟ أين الخطأ؟ ولا تجد - كعادتها - جواباً..
تدور كفأر في عجلة مغلقة، كلما بذلَت جهداً أكبر رجعَت إلى نقطة البداية أسرع! ولا جديد!
في درجك خطط، وطموحات، وأهداف.. عشتَها سنين، وكافحتَ لأجلها ومضيت فيها، وحاولت أن تتجاوز بها العراقيل.. لكنك اليوم تقلّب فيها نظر اليائس البائس الحزين النادم، إنها لم تعُد مجدية كما كانت، ولا براقة كسابق عهدها! إنها لا تستحق ما بذلتَ لها!
تتكئ بظهرك على باب الله.. وتتنفس على أعتابه، وتتوجه إليه، وتحاول أن تتماسك به وتهدّئ روعك بذكره والتفكر في الرجوع إليه.. تسأله وتشتكي إليه وتستعين به.. وتنتظر!
هذه نظرة خاطفة على دوامة اسمها "أزمة منتصف العمر"، سماها بعضهم "أزمة"، وسماها آخرون "مرحلة"، وغيرهم: "سياق"، و"مراهقة متأخرة"، و"سن اليأس" ، و"مرحلة الشكر"...، واختارت "إيدا لوشان" أن تسمي كتابها: (أزمة منتصف العمر الرائعة).
هل هذا حقيقي؟
بعضهم يسخر من الحديث عن أزمة منتصف العمر، أو يتعامل معها بترفُّع وتكابر وتنظير، بعضهم لا يصدق وجودها أبداً، لكن الدراسات الميدانية، والتحاليل الطبية تؤكد وقوع التغيير في هذه المرحلة، وإن كان الشعور والوعي بها يختلف بين شخص وآخر، فانهماك الإنسان في مشاريعه الكبيرة، والعمل الدائم والدائب عليها ونجاحاته المستمرة وتألُّقه المتواصل لا يسمح له بالشعور بهذه المرحلة، بل تمضي عليه وتمر مرور الكرام، لأنه ببساطة: يسابق الزمن.
وعلى العموم.. مرحلة منتصف العمر هي مرحلة انتقالية طبيعية تمر فيها الغالبية العظمى من البشر، النساء والرجال على حد سواء، ولا تقتصر على المتزوجين، تكتنفها بعض التغييرات المستندة إلى النضج العقلي والتغيرات الفيزيولوجية والظرفية والحياتية والاجتماعية والعاطفية والنفسية، تظهر على شكل أعراض نفسية وقرارات حياتية؛ إذ يختلف منظور الإنسان للأشياء والعلاقات الشخصية والعملية والوقائع في حياته ويختلف تعامله معها، وكأنه حرفياً يقوم بتكوين شخصيته من جديد.
هل هي في منتصف العمر فعلاً؟
الإنسان ليس آلة لها عمر افتراضي، ولا يوجد حد لعمره حتى نستطيع أن ندرك به منتصف العمر، ولكن هي قضية أغلبية وسطية افتراضية، والإنسان كيان معقَّد (ولذلك تباينت الدراسات والنسب المتعلقة بهذا الموضوع، وربما يعود ذلك لأن البحث العلمي عن أزمة منتصف العمر قليل جداً، ومحدودية ما لدينا من البيانات العلمية محدود من حيث النوعية والدراسات الموجودة) [كتاب التعامل مع أزمة منتصف العمر].
طبعاً.. هناك فرق بين هذه الأزمة في الغرب والشرق، أو في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، فوجود المسكرات والخدرات والفوضى الجنسية يبكر وقوع هذه الأزمة في بلاد غير المسلمين.
ما أهم أعراض المرحلة؟
قد تختلف الأعراض وآثارها باختلاف المستوى الفكري، والخبرة في التعاطي مع الأزمات، والعلاقة الجيدة مع الزوجة والأسرة والعمل.
في هذه المرحلة غالباً ما يعاني الإنسان من تقلب في مزاجه وتغيّر في ذوقه العام ورغبة في التغيير الجذري للحياة؛ نتيجة الملل والإحباط، لكنه يبقى حائراً باحثاً عن السبيل لذلك التغيير.
وقد يصاحبه عدم استقرار أسري يتجلى في تزلزل الرضا عن الزوجة والأولاد والحالة الوظيفية والمعاشية، وأحياناً يصل الأمر إلى عدم الرضا عن الذات جسداً ونفساً، فتبدأ محاولات الترقيع الذاتي لرأب ما تصدع منه.
بعضهم يشعر أنه بدأ يهوي من رأس هرم الحياة نحو الشيخوخة، فيتمسك بالطرف المقابل له، لتجده يجدد لباسه ويحب المقتنيات الشبابية، ويحن لتصرفاته في مرحلة مطلع الشباب... ولربما سميت هذه المرحلة "المراهقة المتأخرة" لأجل ذلك.
بعضهم الآخر ينقلب رأساً على عقب، ليقع في الموبقات، ويؤسس لعلاقات محرّمة، ويشرب المسكرات، ويتخبط في حياته، فحيناً ينوي طلاق زوجته، وحيناً يفكر بالتعدد، وحيناً يتصرف كالمراهقين بلا اتزان، كل هذا لشعوره بفوات الوقت لتحقيق الهدف الذي يعطي المعنى للحياة.
بعضهم يرافقه شعور بالتوتر المستمر، ويشعر بالتصلُّب وهو يرى تراجع قدرته على تعلُّم الأشياء الجديدة.
بعضهم يقوم بتغييرات جذرية على مظهره الخارجي، ويعتني بشكل ملحوظ بزينته وهندامه.
بعضهم تظهر عليه علامات الاكتئاب، كاضطراب النوم، وكثرته، وفقدان الشهية، والرغبة في الوحدة، ليسرح في الماضي وذكرياته، ثم يتحسر على حاله وواقعه المتسم بالضياع والحرمان، ويبدأ بالبحث عن جهة ما أو شخص ما ليحمّله تبعَة ذلك! وربما انفعل فاتخذ قرارات عشوائية فيما يتعلق بعلاقاته أو أمواله أو أعماله.
بعضهم يفقد اهتمامه بكل شيء حوله تقريباً، حتى عائلته، فلا يكاد يقضى معهم إلا وقتاً قليلاً، وإن جلس معهم فهو بجسده لا بروحه، أو معهم بالتفاصيل؛ يتصيد العيوب، ويختلق المشكلات، وينظر لعائلته نظرة دونية، ثم يتخلف تدريجياً عن حمل مسؤولياته الأسرية، وقد يوكلها إلى غيره من أفراد الأسرة وأقاربها، في حين أن المرأة في هذه المرحلة تميل أكثر للتشكيك في تصرفات الرجل وملاحقته ومراقبته، وإلا فهي تحاول إظهار علاقتها الزوجية بشكل مثالي، وتبالغ في التجمُّل والزينة، والتقاط الصور الشخصية والعائلية ومشاركتها على وسائل التواصل، مع تكتُّم كامل على عمرها، واختلاق قصص عن تعرضها للمعاكسات وخطأ الناس الذين يظنونها وابنتها أختين، ناهيك عن عروض الخطبة التي تأتيها في المناسبات...
ما أسبابها؟
أحياناً لا يكون هناك أسباب واضحة يمكن قراءتها، وأحياناً يمكن ربط أعراضها بأسباب معينة، منها:
أولاً - عند الرجل:
- استقلال الأبناء عنه: يعيد النظر في عددهم، طريقة تربيتهم، وأداء واجبه نحوهم وواجبهم نحوه.
- التغير الفيزيولوجي: فالإنسان في هذه المرحلة تتراجع قدراته وصحته، وقد يصادف بداية أمراض مزمنة كالسكر وضغط الدم وضعف النظر، ومن الممكن أن يشكك بقدراته وطاقاته واعتباره لنفسه وتقديره لذاته.
- النضوج المهني: إذ يعيد الإنسان تقييم ذاته مهنياً، ويقارن نفسه في مجاله بالآخرين، ويعيد النظر في إنجازاته، وكأنه يشعر بميلان الميزان الحياتي لديه، وأنه قارب الرحيل، فيريد أن يدرك الأهم فالأهم على لائحة أولوياته..
- الشعور بالفراغ: نتيجة التقاعد، وتغير نظام الحياة، والروتين المعتاد لسنوات عديدة، مرافقاً لفراغ من الأهداف، والإنجازات، والخطط.
ولكن: يمكن كذلك أن يكون التفاعل مع كل ذلك على شكل إبداع مكتمل، والغالب في مجتمعاتنا أنه يقع على شكل اكتئاب أو قلق، نتيجة الرداءة الحياتية والتصادم مع الآمال.
ثانياً - عند المرأة:
حاول بعض المتخصصين أن يتوصل إلى الأسباب في استبيان أجراه على صفحته على فيسبوك، فكانت تعليقات النساء على النحو الآتي:
- قالت الأولى: السبب كثرة تضحيتها وعدم وجود مقابل يعوضها عما قدمت له.
- وقالت الثانية: إنها اكتشفت ذاتها مؤخراً، وتريد أن تنطلق بالحياة، فتؤسس مشاريع وتستكمل تعليمها.
- وقالت الثالثة: إن هذا شعور طبيعي للمرأة بهذه السن، المهم أن لا تهدم بيتها وتخصص وقتاً لذاتها.
- وقالت الرابعة: إن كثرة الضغوط تولد الانفجار، وخاصة إذا كان الزوج مقصراً في النفقة والتربية ومشغولاً عن بيته.
- وقالت الخامسة: إنها ملَّت من الصبر على بخل الزوج أو ضربه لها.
- وقالت السادسة: إنها كانت تفكر بأن سن الـ 40 هو سن النضج، وتريد أن تحدث تغيراً في حياتها.
- وقالت السابعة: إذا فقدت المرأة شعورها بالأمان فإنها تضحي بكل مكتسباتها؛ من أجل الحصول على الأمان.
- وقالت الثامنة: ذلك بسبب قربها من سن اليأس وتغيير الهرمونات بجسدها.
- وقالت التاسعة: إن المرأة إذا لم تجد من يقدرها ويحترمها ويشبع حنانها وعاطفتها فإنها تفكر بالتحرر من زوجها لعلها تجد من يشبع عاطفتها.
- وقالت العاشرة: إن هذه المرأة كانت مشغولة سابقاً بدراستها ثم زواجها وبعدها بتربية أطفالها والآن وصلت لعمر شعرت بالفراغ، فلهذا هي تفكر بعمل شيء جديد بحياتها مثل عمليات التجميل أو التخلص من زوجها.
كيف نتعامل مع هذه المرحلة؟
هناك خطوات وقائية، وخطوات علاجية.
أولاً- الخطوات الوقائية:
1- اهتم بنفسك، واحرص على ما ينفعك، واستشر واستخر في خطواتك، ليكون ذلك عذراً لك أمام نفسك مستقبلاً، ويجنبك الندم.
2- اهتم بأسرتك، أشبعها حباً واهتماماً وعاطفة؛ حتى تكون ثابتة وراسخة في قادمات الأيام.
3- اهتم بأولادك، بتربيتهم وأداء واجبك نحوهم.
4- اتخذ أصحاباً صالحين، ينهضك حالهم عند كِبرك.
5- ادعم مادتك الإيمانية، التي تدعم لك وعيك، وتسامحك، وإنصافك، وموضوعيتك، فالمؤمن آمِن متوازن محبوب {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } [مريم: 96]، وبالمقابل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]
والمهم بعد ذلك هو طريقة تجاوز المرحلة والاستفادة منها، وذلك باتباع الخطوات الآتية:
الخطوات العلاجية:
1- اجتهد في الحفاظ على صحتك من خلال اتباع نظام غذائي ورياضي وإجراءات صحية كفحص عام بشكل دوري.
2- أعد النظر في أهدافك وخططك، على كافة الصعد (اجتماعياً وعلمياً وصحياً ودينياً).
3- ابحث عن نقاط القوة فيك، لتستند إليها في مسيرك القادم، وركز على إيجابياتك وميزاتك ومحصلاتك الحياتية، واعمل جرداً للأمور التي تشعرك بالسعادة، وأرشيفاً للكلمات المشرقة التي تشهد لك في تاريخك.
4- حاول أن تدعم صِلاتك الاجتماعية، وتعيد الروح لتواصلك مع أناس استفدتَ منهم سابقاً، وكان للتعرف عليهم أثراً في حياتك.
5- احرص على أن تكون واضحاً مع ذاتك في مرحلة إعادة ترتيب أوراقك، وحاول ما استطعت أن تقرأ نفسك بموضوعية وإنصاف، فلا تجلدها ولا تغرقها في الأمل، وذلك لضمان النتائج.
6- اجلس مع نفسك جلسات تأمُّل تتذكر فيها نعم الله عليك، لتحيي السنة الإلهية الواردة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15، 16]
7- كثّف مشاريعك العائلية، ونشاطاتك الاجتماعية التي تشاركك فيها عائلتك، وتذكر أن هناك أناساً أبدعوا بعد الأربعين، وبعد الخمسين، وبعد الستين، فتأكد أن القطار لم يفت، وكونك ما زلت حياً ليوم آخر فهناك أمل.
عن عمر بن ذر، قال: كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتاباً أوصاه فيه بتقوى الله، وقال: (يا أبا عمر، إن بقاء المسلم كلَّ يومٍ غنيمة).
8- تذكر أن انشغال الإنسان في إنجاح مشاريعه وتحقيق أهدافه وتنفيذ خططه، والدأب لأجلها، وتنمية نقاط قوته ومعالجة نقاط ضعفه؛ كل ذلك يحفظه من الهزيمة في هذه المرحلة، بل يحولها لـ "مرحلة الشكر" لما سبق بناؤه واغتنامه.
يقول الدكتور ميلن صاحب كتاب "التعامل مع ازمة منتصف العمر": (إن الشيء المهم هو أن "تنمو" حتى لو مرَّت عليك أوقاتٌ شعرتَ بها أن أقصى ما يمكنك القيام به هو البقاء على قيد الحياة إلى اليوم التالي، إلا أن الهدف هو النمو، وأعتقد أننا نفعل ذلك بشكل أفضل عندما ننظر لأزمتنا أنها وقت للتطوّر والتغيير الشخصي). فتدرَّب دائماً على الانتقال من دائرة الراحة إلى دائرة النمو، ومن دائرة الروتين إلى دائرة الإبداع.
9- على المستوى الأسري حاول أن تحافظ على استقرار أسرتك واستمرارها وإشراقها، حاول أن تتحف زوجتك وأولادك بشيء جديد كل يوم، أو كل أسبوع، واجعل لنفسك وقتاً للقراءة معهم، ولا تتناول الطعام إلا معهم، وإذا خرجت لحاجة فاصحب أحداً من أسرتك معك ما أمكن.
10- لا تتردد بزيارة الطبيب للحصول على المساعدة إن لزِم، وتعامل مع المسألة على أنها أزمة نفسية تحتاج دعماً معنوياً ومعرفياً وفكرياً وذهنياً أكثر مما تحتاج إلى دواء.