ذكرى المولد تجديدٌ لسيرة النبي المصطفى ﷺ في المسلمين، وتذكيرٌ بحديثه وسنَّته، وإحياءٌ لفضله على أمَّته، وإيقادٌ لجذوة محبته في قلوب تابعيه ومحبِّيه.
ذكرى المولد تربية للصغار على حبه ﷺ، ومحطة للكبار لتجديد عهده، وإصلاح ذات بينهم، ووضع أثقال الخصومات بين أبناء أمَّته ﷺ ، كرامةً له ﷺ يوم ولادته.يقول الشافعي رحمه الله:
من نّال منّي أو عَلِقْتُ بذمَّته
أبرأتُه لله شاكر منَّته
أَأُرى مُعوَّقَ مؤمنٍ يومَ الجَزا؟
أو أن أَسُوءَ محمدًا في أُمتِهِ؟
ذكرى المولد تمسُّكٌ واعتصام بحبال الأمان، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 33]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان فيهم أمانان: النبي ﷺ، والاستغفار، فذهب النبي ﷺ وبقي الاستغفار)([1]).
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ رسول الله ﷺ فينا، أو يجب أن يكون فينا، فهو موجود برسالته، بحديثه، بسيرته... لكننا نريد أن يكون بيننا بأخلاقه التي تتجلى في أخلاق تابعيه، ومعاملاته التي تظهر في أسواق أمّته، نريد أن ننظر من خلال بوصلته إلى حركاتنا وسكناتنا، ومواقفنا وقناعاتنا، إلى تفاعلاتنا وانفعالاتنا، ثم نصحح المسيرة بناء على السيرة.
قال رسولُ الله ﷺ: «إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً: كتابَ الله، وسنّةَ نبّيه»([2])، وقال رسول الله ﷺ: «من تَمَسَّكَ بسنَّتي عند فساد أمتي فله أجرُ مائة شهيد»([3]).
وبالمقابل: قال رسول الله ﷺ: «من رغب عن سنتي فليس مني»([4]) .
قولٌ وعمل:
وحتى نفيد من ذكرى المولد، وننتقل معها من القول إلى الفعل، علينا أن نفعل أموراً سبعة:
أولاً- أن نتعرف عليه ﷺ ، وندعم إيماننا به:
من شروط الاتباع المعرفة، فكيف يتبع الإنسان شخصاً ويلتزم منهجاً هو جاهل به!
يقول الله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [المؤمنون: 69]
معرفة الرسول ﷺ هي مفتاح الخير بعدها، فبمعرفته نحبه، وبحبه نتبعه، وباتباعه يحبنا الله ونعتصم من الضلال.
قبل أن ننصره على المسيئين له؛ علينا أن نعرفه حقَّ معرفته!
قبل أن نثور على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي للدفاع عنه؛ يفترض بنا أن نعرف سيرته وسنته ورسالته وحديثه، وشمائله، وأن نتخلق بأخلاقه ونتحقق بصفاته ﷺ.
اليوم هناك شبه أمِّيَّة في سيرة النبي ﷺ عند كثير ممن يقولون إنهم من أمته، وفي المجتمع المسلم نماذج من المسلمين لا يعرفون عن النبي ﷺ إلا القليل القليل..
تسأل أحدهم عن أول زوجات النبي ﷺ فيقول لك: فاطمة!
وتسأله عن آخر بناته ﷺ فيقول لك: عائشة!
تنظر في حاله فلا تراه يرضي النبي ﷺ، ورزقه ليس كما أوصى النبي ﷺ، حركته الحياتية بعيدة عن منهج النبي ﷺ، وضع أسرته، وحجاب زوجته وبناته... لا يرضي النبي ﷺ!
ليس له ورد من الأذكار المأثورة عن النبي ﷺ، ولا من الصلاة والسلام على النبي ﷺ.
لم يقرأ في حياته كتاباً عن سيرة النبي ﷺ، ولا كتاباً في حديث النبي ﷺ... ثم يدعي أنه من أمة النبي ﷺ، ويريد أن ينتصر للنبي وينتقم للنبي؛ وهو أجهل الناس به ﷺ، وأبعد الناس منه!
ومما ينفع في هذا قراءة:
1- كتب السيرة: ومن أيسرها كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري، والسيرة النبوية للصلابي، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي.
2- كتب الحديث النبوي الشريف: ومن أيسرها كتاب رياض الصالحين للإمام النووي، وكذا الأربعين النووية للنووي كذلك، وممكن قراءة كتاب مختصر البخاري للزبيدي، ومختصر صحيح مسلم لمصطفى البغا، ومن أيسرها سلسلة الحديث الميسر للدكتور محمد خير الشعال.
3- كتب الشمائل النبوية: ومن أيسرها كتاب شمائل النبي ﷺ للترمذي، وكتاب كيف عاملهم للشيخ محمد صالح المنجد، وكتاب سيدنا محمد رسول الله لعبد الله سراج الدين، وكتاب هذا الحبيب يا محمد لأبي بكر جابر الجزائري.
ثانياً- أن نحبه ﷺ وننصره:
من النتائج الطبيعية لمعرفته ﷺ الإعجاب به ومحبته، ولا يمكن للمسلم أن يصل إلى هذه المحبة دون أن يعرف نبيه ﷺ أولاً، فالقاعدة أنه لا يمكن للإنسان أن يحب شيئاً يجهله، بل على العكس، الإنسان عدو ما يجهل، لذلك نحن نحتاج إلى مزيد من المعرفة لمزيد من الحب، وبعد أن يتعرف المسلم على النبي ﷺ ستنبت في قلبه بذور محبته ﷺ ولا شك.
ومحبة النبي ﷺ دين ندين الله به:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يُؤمِنُ أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين»([5]) .
وعن أنس رضي الله عنه أيضاً أن النبي ﷺ قال: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبَّه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكُفر - بعد إذ أن أنقذَه اللهُ منه - كما يكره أن يُقْذَفَ في النار»([6]) .
سئل سيدنا علي رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله ﷺ؟ قال: كان رسول الله ﷺ أحبَّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، وأحبَّ إلينا من الماء البارد على الظمأ.
إن أكبر فاجعة يصاب بها العالمُ الإسلامي اليوم هي فتور هذا الحب المقدس في قلوب عدد من المسلمين؛ بسبب مخالفتهم أمره، واقتدائهم بغيره، هناك ينطفئ بريقُهم، وتضيعُ مبادؤهم ويتخلفون عن ركب الأمم، عندما يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيقال لهم: اهبطوا!
وبشكل عملي: فقد يعين على تقوية الحب في القلب لرسول الله ﷺ أمور، منها:
1- الجد في طلب معرفته، والقراءة عن سنته وسيرته وحديثه وشمائله.
2- الاجتهاد في اتباع سنته، وعدم مخالفة أمره.
3- سؤال الله تعالى أن يرزقنا هذا الحب لحبيبه ﷺ
4- كثرة الصلاة والسلام عليه (وسيأتي الحديث عنها)
5- استحضار معيته، وفضله، ومحبته لنا وحرصه علينا.
6- مجالسة محبيه، ومدارسة أحوالهم، والقراءة لهم، أو عنهم.
7- زيارة مسجده الشريف
ثالثاً - أن نتبعه ﷺ ونهتدي بهديه ونتأسى به:
وهذه نتيجة طبيعية للمحبة، وثمرة من ثمراتها:
لو كان حبك صادقاً لأطعتَه
إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيع
وكذلك هي نتيجة للمعرفة، فمجرد معرفة النبي ﷺ لا تكفي من دون الإيمان به والذي يتجلى في اتّباعه، فأهل الكتاب عرفوه كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146]، علماء أهل الكتاب يعرفون الرسول ﷺ كما يعرف أحدهم ولده، لكن تلك المعرفة لا تنفع ما لم تثمر الإيمان والاتباع، فالإيمان بنبوة النبي ﷺ ورسالته يقتضي اتباعه والاهتداء بهديه، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 64].
يقول الحسن البصري رحمه الله: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وَقَر في القلب، وصدقتْه الأعمال)([7]).
فكل من هبَّ ودبّ يدعي أنه على السنة، وغيره على البدعة، ويدعي الاتباع...
وكلٌّ يدعي وصلاً بليلي
وليلى لا تقر لهم بذاكَ
لذلك جعل الله ميزاناً لمحبته، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].
فليسأل الواحد منا نفسه:
- ما حجم هذا الاتباع في برنامجه وحركة حياته؟
- ما أخبار نوافله وسننه وأذكاره التي ثبتت عن رسول الله ﷺ ؟
- هل حال بيته وأهله وولده على السنة؟ هل حال رزقه على ما يرضي رسول الله ﷺ؟
رابعاً- أن نبلّغ ما نستطيع من رسالته ﷺ وسيرته وحديثه:
هذا البلاغ الذي عاش النبي ﷺ لأجله، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: 54].
وفي حجة الوداع وقف ﷺ يسأل الناس: «ألا هل بلغت». قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع»([9]).
وفي الحديث: «بلغوا عني ولو آية»([8]). هذا أقل النِّصاب.. آية، حديث، موقف... فتبليغك ما تعرف، لمن تعرف، فرض وواجب.
خامساً- أن نكثر من الصلاة والسلام عليه:
وهذه عشر فوائد لمن صلى وسلم على رسول الله ﷺ:
1) صلاة من الله: قال ﷺ: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً»([10]) .
2) صلاة من رسول الله ﷺ: قال ﷺ: «من صلّى عليّ صلاة واحدة بلَغتْني صلاته، وصليت عليه»([11]) .
3) صلاة من الملائكة: قال ﷺ: «أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة؛ فإنه أتاني جبريلُ آنفاً عن ربه عز وجل، فقال: ما على الأرض مسلمٌ يصلي عليك مرة واحدة إلا صليتُ أنا وملائكتي عليه عشراً»([12]).
4) الاستكثار من الحسنات: قال ﷺ: «من صلّى علي صلاة واحدة بلغتني صلاته، وصليت عليه، وكُتِبَ له سوى ذلك عشرُ حسنات»([13]) .
5) التقليل من السيئات: قال ﷺ: «من صلّى عليّ من أمَّتي مخلِصاً من قلبه صلَّى الله عليه بها عشرَ صلوات، ورَفَعَهُ بها عشرَ درجات، وكَتَبَ له عشرَ حسنات، و مَحَى عنه عشرَ سيئات»([14]).
6) شفاعة النبي ﷺ، قال ﷺ: «من صلى على محمد، وقال: "اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة" وجبت له شفاعتي»([15]) .
7) القرب من النبي: قال ﷺ: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة»([16]) .
8) عرض الصلاة على النبي ﷺ: قال ﷺ: «إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فيه خُلق آدمُ، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا من الصلاة عليّ فيه، فإن صلاتَكم معروضةٌ عليّ». قالوا: يا رسول الله، كيف تُعرَض صلاتنا عليك، وقد أَرِمْتَ - يقولون: بليتَ -؟ فقال: «إن اللهَ حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجسادَ الأنبياء»([17]).
9) كفاية الهم في الدنيا والآخرة، جاء رجلٌ إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله، أجعلُ ثُلُثَ صلاتي عليك؟ قال: «نعم، إن شئت»، قال: أجعلُ الثلثين؟، قال: «نعم، إن شئت»، قال: سأجعل لك صلاتي كلَّها دعاءً لك، قال: «إذن يكفيك اللهُ ما أهمَّك من أمر دنياك وأخرتك»([18]) .
10) وأخيراً: قال عبد الله بن الحكم: رأيتُ الإمامَ الشافعي في النوم، فقلت له: يا أبا عبد الله؛ ما فعل اللهُ بك؟ قال: رَحِمَني الله، وغفر لي، وزَفَّني إلى الجنة كما تُزَفَّ العروس، ونثر علَيَّ كما يُنثَر على العروس ـ أي: من الخيرات ـ فقلت: بمَ نِلْتَ هذا؟ قال: كتبتُ: (وصلى الله على محمد، عدد ما ذكره الذاكرون، وعدد ما غفل الغافلون). يقول عبد الله بن الحكم: فلما أصبحتُ نظرت إلى كتاب "الرسالة"، فوجدت الأمرَ كما رأيتُ في النوم. [إتحاف السادة المتقين]
وروي عن أبي الحسن قال رأيت النبي ﷺ في المنام فقلت: يا رسول الله، بم جوزي الشافعي عنك حيث يقول في كتابه الرسالة: (وصلى الله على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون) فقال ﷺ: جوزي عني أنه لا يوقف للحساب. [إحياء علوم الدين]
سادساً - أن نلتزم ورثتَه (العلماء)، ونتعلَّم منهم:
في ذكراه ﷺ يجتمع المسلمون في مساجدهم، ويلتفُّون حول علمائهم، «وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياءَ لم يُورِّثُوا ديناراً ولا دِرْهماً، ورَّثُوا العِلْمَ، فمن أخَذَه أخَذَ بحظٍّ وافِرٍ»([19]).
والعلماء حَمَلَة اللواء بعد رسول الله ﷺ، وفي الحديث: «يحمل هذا العلم من كلِّ خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين»([20]).
يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مئة سنة من يجدِّد لها دينها»([21]).
فالمأمول بالمسلم - عملياً -:
- أن يختار أحد المساجد فليتزم دروسه.
- أو بعض الدعاة فيتابع نتاجه المسموع أو المكتوب أو المرئي.
سابعاً - أن لا نخالف أمره في ذكرى مولده ﷺ:
في ذكراه.. يحتفي المسلمون ويفرحون، ويتبادلون التهاني والحلوى، ويسألون الله به نيل الأماني، وهذه عادة متوارثة بين المسلمين منذ قرون.
قال الحافظُ ابنُ كثير: (كانَ الملكُ المظفَّرُ أبو سعيدٍ يعمل المولدَ الشَّريفَ في ربيعٍ الأوَّل، ويحتفِلُ به احتفالاً هائلاً...) ([22]).
وقال الشيخ أبو القاسم، شهاب الدين، أبو شامة المقدسي في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": (فالبدع الْحَسَنَة مُتَّفق على جَوَاز فعلهَا والاستحباب لَهَا ورجاء الثَّوَاب لمن حسنت نِيَّته فِيهَا، وَهِي: كل مُبْتَدَع مُوَافق لقواعد الشَّرِيعَة غير مُخَالف لشَيْء مِنْهَا، وَلَا يلْزم من فعله مَحْذُور شَرْعِي، وَذَلِكَ نَحْو بِنَاء المنابر والربط والمدارس...
وَمِن أحسن مَا ابتدع فِي زَمَاننَا من هَذَا الْقَبِيل مَا كَانَ يفعل بِمَدِينَة "اربل" جبرها الله تَعَالَى كل عَام فِي الْيَوْم الْمُوَافق ليَوْم مولد النَّبِي ﷺ من الصَّدقَات وَالْمَعْرُوف وإظهار الزِّينَة وَالسُّرُور، فإن ذَلِك مَعَ مَا فِيهِ من الإحسان إلى الْفُقَرَاء مشْعرٌ بمحبة النَّبِي ﷺ وتعظيمه وجلالته فِي قلب فَاعله، وشكراً لله تَعَالَى على مَا منَّ بِهِ من إيجاد رَسُوله الَّذِي أرْسلهُ رَحْمَة للْعَالمينـ ﷺ وعَلى جَمِيع الْمُرْسلين.
وَكَانَ أول من فعل ذَلِك بالموصل: الشَّيْخ عمر بن مُحَمَّد الملا أحد الصَّالِحين الْمَشْهُورين، وَبِه اقْتدى فِي ذَلِك صَاحب أربل وَغَيره رَحِمهم الله تَعَالَى) ([23]).
يقول الشاعر:
كمْ جمَّعوا في حبِّه الجُموعَا
وفرَّقُوا في حبِّه المجمُوعا
وأكثَروا الأضواءَ والشُّموعا
وزيَّنوا الدِّيار والرُّبوعَا
وطيَّبوا الكلَّ بعَرْفِ الندِّ
وفرِحُوا بذكرِه وطَرِبوا
وأكَلوا عَلى اسمِه وشرِبوا
وابتهَلوا لربِّهم وطَلبوا
واستشفَعوا لهُ بهِ وانتَسبوا
معتقدينَ نيلَ كلِّ قَصدِ
كَم عمَّر اللهُ بهِ الدِّيارا
ويسَّر السُّرورَ واليَسارا
إذ بذَلوا الدِّرهمَ والدِّينارا
وذَكرُوا الرَّحمن والمختارا
بينَ صلاةٍ ودُعا وحَمدِ
يا هل تُرَى هذا يسوءُ أحمدا
أمْ هَل تُراه ليسَ يُرضي الصَّمدا
فدتكَ نفسي اعمَل ولا تخشَ الرَّدى
وكرِّر المولدَ ثمَّ المولدَا
تعِش سعيداً وتمُت في سعدِ
لكن هذا الفرح بميلاده ﷺ لا يبيح مخالفه أمره، والوقوع في نهيه، وإيذاء الناس بما استُحدث في هذا اليوم من مخالفات شرعية وقانونية واجتماعية!
يقولُ الحافظُ السَّخاوي: (سُئِلتُ عن أصل عمل المولد الشريف؟ فأجبت: لم ينقَل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدَث بعد، ثم ما زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده ﷺ وشرف وكرم يعملون الولائم البديعة المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، بل يعتنون بقراءة مولده الكريم وتظهر عليهم من بركات كل فضل عميم...
وأكثرهم بذلك عنايةً أهل مصر والشام، ولسطلان مصر في تلك الليلة من العام أعظم عام، قال الإمام شمس الدين ابن الجزري: ولقد حضرت في سنة خمس وثمانين وسبعمائة ليلة مولد عند الملك الظاهر برقوق رحمه الله بقلعة الجبل فرأيت ما هالني فيه! حرزت ما أنفق في تلك الليلة على القراء والحاضرين من الوعاظ والمنشدين وغيرهم بنحو عشرة آلاف مثقال من الذهب...
وعلى هذا ينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما ذكر، أما ما يتبعه من السماع واللهو وغيرهما فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يعين السرور بذلك اليوم، فلا باس بإلحاق ومهما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى) ([24]).
هذه أمور سبعة حتى نفيد من ذكرى المولد، وننتقل فيها من القول إلى الفعل:
- أولاً: أن نتعرف عليه ﷺ ، وندعم إيماننا به.
- ثانياً: أن نحبه ﷺ وننصره.
- ثالثاً : أن نتبعه ﷺ ونهتدي بهديه ونتأسى به.
- رابعاً: أن نبلَّغ ما نستطيع من رسالته ﷺ وسيرته وحديثه.
- خامساً: أن نكثر من الصلاة والسلام عليه.
- سادساً : أن نلتزم ورثتَه (العلماء)، ونتعلَّم منهم.
- سابعاً : أن لا نخالف أمره في ذكرى مولده ﷺ.
* * *
([1]) أخرجه الطبري في تفسيره [11/150].
([2]) أخرجه الحاكم في مستدركه برقم (318)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (20388) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- .
([3]) أخرجه بهذا اللفظ البيهقي في الزهد الكبير (ص118) عن ابن عباس t، وأخرجه الطبراني في معجميه الكبير برقم (1320)، والأوسط برقم (5414)، وأبو نعيم في حلية الأولياء 8/200. بلفظ (أجر شهيد) عن أبي هريرة t بنحوه.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (5063)، ومسلم في صحيحه برقم (3469)، وأحمد في مسنده برقم (13534) عن أنس بن مالك t.
([5]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (15)، ومسلم في صحيحه برقم (44)، وأحمد في مسنده برقم (12814) من حديث أنس بن مالك t.
([6]) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (16)، ومسلم في صحيحه برقم (43)، وأحمد في مسنده برقم (13592) عن أنس بن مالك t.
([7]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في شعب الإيمان، والديلمي في مسنده: الفردوس بمأثور الخطاب.
([8]) أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو.
([9]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
([10]) أخرجه مسلم في صحيحه.
([11]) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1642) من حديث أنس بن مالك t، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (فيه راوٍ لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات).
([12]) قال المنذري في الترغيب والترهيب عند الحديث رقم (2568) (رواه الطبراني عن أنس بن مالك مرفوعاً)، ولم أجده في معاجم الطبراني.
([13]) ينظر التخريج السابق.
([14]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى برقم (9892) من حديث أبي بردة t.
([15]) رواه أحمد، والبزار، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وبعض أسانيدهم حسنة.
([16]) أخرجه الترمذي في جامعه برقم (484)، وابن حبان في صحيحه: (1911)، عن ابن مسعود t، وقال الترمذي: (هذا الحديث حسن غريب).
([17]) أخرجه أبو داود في سننه برقم (1049)، والحاكم في مستدركه برقم (1029)، وابن ماجه في سننه برقم (1085)، والنسائي في السنن الكبرى برقم (1666)، وابن حبان في صحيحه برقم (910)، والإمام أحمد في مسنده برقم (16162) من حديث أوس بن أوس t.
([18]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (4493)، عن حبان بن منقذ t، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد في الحديث رقم (17281): (إسناده حسن).
([19]) أخرجه أبو داود الترمذي وأحمد بإسناد حسن.
([20]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وصحَّحه الإمام أحمد
([21]) أخرجه أبو داود في سننه،وحسَّنه ابن حجر، وصححه السَّخاوي
([22])البداية والنهاية لابن كثير [17/205]
([23])الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 24).
([24]) الأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من الأحاديث النبوية [3/ 1118].