مرات كثيرة.. قليل من الذوق.. يغني عن كثيرٍ من الكلام..

مبادرة من الذوق.. توفر ماء الوجه.. وعناء الاعتذار..

الذوق الراقي يحمل عن صاحبه هفوتَه.. يستر خطأه.. ويمد له ألف يد تعينه إذا ما كبا جواده في ثنايا الزمان..

الذوق هو أناقة الروح.. تُطِل من خلاله.. وترتقي في ظلاله..

وهو في الأصل مأخوذ من التذوق، والذي هو إدراك الطعم عن طريق حاسة الذوق، ثم استُعيرت كلمة الذوق لمواضع عدَّة، منها الأدب واللباقة وحسن الخلق.

 

 

والملاحَظ أنه يمكننا أن نستشف من هذا المعنى أمرين اثنين:

- الأمر الأول: أن معنى الذوق يفيد الإدراك بحاسة، ونحن نختلف بأحكامنا على ما تدركه الحواس، فما تشتهي تذوقه أنت قد يزعج طعمُه غيرَك، وما تستحسنه عينُك قد تستقبحُه عينُ آخر، وما ترتاح له أذنُك قد يزعج أذنَ غيرِك..

وهكذا الذوقيات، تختلف بين المجتمعات، بل حتى بين الأشخاص، لتبقى أصولها راسخة في دائرة الذوق العام.

 

- الأمر الثاني: عندما يمرض الإنسان تتعطل عنده بعض وظائف التذوق فلا يتذوق أصلاً، أو قد تختلط عليه فيجد الحلو مراً والعسل حنظلاً، وكذلك هي الذوقيات عندما تمرض النفس، يتعطل الإحساس بها، أو يختلط حَسَنها بقبيحها، وعندها لا يستحسن المرء ما يستحسنه المجتمع السليم، بل يحارب ما يحبُّه المجتمع ويرفض ما يَقبله المجتمع ويقبَل ما لفَظَه المجتمع، ويجد اللباقة والذوق عند غيره تكلفاً مزعجاً وتصرفاً مرهقاً!

 

ومن هنا، فإنا لا نأخذ الأحكام على الذوق من أفراد، وإنما نأخذها من مصدرين اثنين:

- المصدر الأول: الشرع.

فالحَسَن ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبَّحه الشرع، وقد اعتنى الدين الإسلامي بالذوق، والذي هو معنى من معاني الأدب واللباقة وحسن الخلق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ شَيءٍ يُوضَعُ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيبلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِب الصَّومِ وَالصَّلاةِ» [الترمذي وأبو داود].

فالمسلم.. يتعبَّد الله بذوقه.. ويحاول التمكُّن منه ليرتقي به، حتى يبلغ درجة القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقاً» [الترمذي]..

وقد كان أهل العلم والرأي يقدمون الذوق والأدب على العلم، فترى العلماء الذين كانت لهم الصدارة في العلوم الشرعية عرفوا أهمية الذوق والأدب، فأقبلوا عليه..

يقول سفيان الثوري رحمه الله: (كان الرجل لا يطلب العلم حتى يتأدب ويتعبد قبل ذلك).

وعن مالك بن أنس رحمه الله قال: (كانت أمي تُعَمِّمُني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة الرأي فتعلّم من أدبه قبل عِلمه)، والتزم مالكُ نصحَ أمه، وشهد له أقرانه، فقال ابن وهْب مثلاً: (ما نَقَلْنَا من أدب مالك أكثرُ مما تعلمنا من علمه).

وفي الحِكَم: (الأدب يرفع المملوك فيجلسُه في مجالس الملوك).

 

- المصدر الثاني: العرف الاجتماعي الصحيح.

بقدر ما ترتقي المجتمعات وتتحضر بقدر ما تعتني بالأداب والذوقيات التي تنظم العلاقة بين أفرادها، وتمثل قواعد لا يجوز تجاوزها بحال، والحياة المتحضرة تتطلب أن يعطي الشخص أهمية للقواعد المنظمة والسائدة في المجتمع الذي يعيش فيه، وتعتبر تجاوز الذوقيات الفرعية نوعاً من الخطأ الذي يصعب غفرانه!

 

والحقيقة.. أن أوضح ما يحكم العلاقة البشرية هو مجموعة الحقوق والواجبات، والتي تمثل مستوى الضروريات، وبعد ذلك تأتي جملة من الأخلاق لتمثل مستوى الحاجيات، ثم تأتي الذوقيات في رأس الهرم لتمثل مستوى التحسينات والكماليات والروتوشات؛ التي تتنافس من خلالها المجتمعات الأكثر رقياً.

وهذا المستوى الثالث هو ما نتكلم عنه هنا، هو الإتكيت الذي يمثل فن إبراز الخصال الحميدة، ليظهر من خلال سلوك بالغ التهذيب، يعكس رقياً من صاحبه، ويُبنى على أساس من القيم والمبادئ والأخلاق.

ولأن الذوق هو سلوك مجتمعي لا يظهر أصلاً إلا عند خطوط التماس مع المجتمع، فإنه يتناول كافة المظاهر والإجراءات والتقاليد المجتمعية؛ كالزيارات والولائم والتواصل والتعارف واللقاء والكلام والسفر...، وما إلى ذلك.

 

لماذا الاهتمام بالذوق أصلاً؟

لأن الإنسان كائن اجتماعي: يقولون: (سُمي الإنسان إنساناً لأنه ينسى) وهذا مروي فعلاً عن ابن عباس رضي الله عنه، لكن هذا السبب ليس هو السبب الوحيد، وإنما سُمي الإنسان بهذا الاسم أيضاً لأنه يأنس بالإنس، ويأنسون به، يأنس بالحق، ويأنس بالخلق كما جاء في تاج العروس [15/423].

فالإنسان كائن اجتماعي بفطرته، يألف ويؤلَف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، بل إن الله تعالى قهره باجتماعيته، فأحوجه إلى جماعة تشاركه مفردات الحياة، يعينها فتعينه، يسخَّر لها وتسخَّر له، تترابط مصالحه معها، ويكون جزءاً من معادلة مصالحها..

فما دام الإنسان اجتماعياً، ولا تتوقف بذور الدافع الاجتماعي عن النمو بين جنباته، كان لزاماً عليه أن يمتِّن علاقته بالمجتمع من حوله، وذلك من خلال خلق حسَن، ومبادرة طيِّبة، وتعامل لطيف، وتصرف لبق، وإحسان للآخرين، فالنفوس جُبلَت على حبِّ من أحسن إليها، ويقولون: الإنسان عبد الإحسان، ويقال أيضاً: الإنسان عبد الاهتمام، فإن أردت علاقات اجتماعية جيدة فاهتم بمن حولك، أحسِن إليهم.. وهذا هو السر بكل بساطة!

 

طبعاً.. لا يُنكَر.. أنَّ لدى الإنسان خياراً آخر؛ وهو الانطواء والانزواء والتقوقع على الذات، والفرار من لأواء المجتمع وصخبه وقيلِه وقاله... لكنه في الحقيقة يكون عندها بمنتهى السلبية، لعجزه عن الخروج من التأثر بالمجتمع الذي يفرُّ منه، فلا تنقضي حاجته إلى المجتمع بحال، انظر مثلاً إلى كوب القهوة الذي تحتسيه، كم من إنسان عمل عليه ليصل إليك، هناك من زرعه، وحصده، وصدَّره، واستورده، وحمَّصه، وباعه جملة، وباعه تجزئة، حتى وصلك لتتلذذ به!

وهذه الشاشة التي ترى منها وتقرأ فيها.. ما هي إلا نتيجة لخبرة تراكمت عشرات السنين بين مئات المختصين؛ لتُظهر لك المفردات الدقيقة بأفضل ما يكون، وتعرض لك ما تقرؤه وأنت بأفضل حال من الراحة والانسجام معها!

إذاً، فالإنسان ملزَم بحكم طينته بمخالطة الناس والتأثر بهم والاستفادة منهم، وهذه المخالطة تفتقر إلى مراعاة الطينة البشرية المجبولة على الكرامة والاحترام والمحبة والتقدير...

 

وقد تعارفت البشرية منذ القدم على قواعد ومبادئ تنظم سلوك أفرادها لضمان سلامة هذه الطينة من الأذى المادي والمعنوي، فقد عرف الإنسان قديماً جملة من هذه الذوقيات، وسجَّلها ليحتفظ بها، ويكسوها بعض معاني القدسية، فنقشها على جدران المعابد وصفحات المخطوطات في العصور الفرعونية والرومانية والبيزنطية، وقد أظهر استقراء بعض هذه المخطوطات والمنقوشات عدداً من القواعد المتَّبَعة في ذلك العصر عند مقابلة الكبَراء أو الأشخاص الرسميين، أو استقبال الضيوف، والوفود، أو حتى عند تشييع الموتى...

ولما جاء الإسلام أَعطى الذوقيات والأخلاق مكانة خاصة، بل إذا ما أردنا اختصار الإسلام كاملاً وجدناه متجسداً في أصول ثلاثة: العقيدة، والشريعة، والأخلاق، ولا يكتمل إسلام المسلم حتى يصحِّح عقيدته، ويلتزم شريعة ربه، ويقوِّم أخلاقه.

وحُسن الخلق مؤشر الإيمان، فمهما زاد إيمان المسلم حَسُن خلقه، ومهما قلَّتْ أخلاقُهُ رقَّ دينُهُ.

ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم اختصار مهمته على الأرض قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» [أحمد]

ومع تطور البشرية تطورت هذه الذوقيات، واتخذت طابعاً حديثاً، فاليوم هناك أصول تحكم ذوقيات التعامل مع الجهاز المحمول بين الناس -مثلاً-، وذوقيات أخرى تحكم تواصلنا وتفاعلنا في مواقع التواصل، ومن لا يحترمها ولا يكترث بها ولا يأخذها على محمل الجد فمصيره المحتَّم هو الـ "بلوك"! وذلك رحمة ورأفة به قبل أن ينزل بقية الأصدقاء بساحته وينشرون المستور!

 

ختاماً:

نحن أحق الأمم بالذوق.. لأننا أقدمهم حضارة.. وأرسخهم ديانة.. وأكثرهم تجذراً في عمق التاريخ..

تجمَعنا ملايين المفردات التي يتفرق بها آخرون في مجتمعات أخرى..

ذوقنا.. جزء من هويتنا.. جزء من أخلاقنا.. تاج على ناصية سجيتنا.. والتي نسقيها بماء الرقي والاحترام..

 

دمتم على ذوق angel

--- يتبع ---