مقدمة:

«لما صور اللهُ عز وجل آدمَ في الجنة تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، وينظر إليه، فلما رآه أجوف عرف أنه خَلق لا يتمالك» [مسلم].

فطبيعة الإنسان الجوفاء ومركزه الأجوف جعلة يتسم بشيء من الخفَّة والطيش، وذلك ما جعله يتهالك ولا يتماسك في مواجهة مطامعه، أو مخاوفه، أو عقبات الدرب الذي يسير فيه نحو خالقه.

والذي يظهر بوضوح في كل مفصل من مفاصل الحياة أن الابتلاءات والمشكلات فعلاً هي كملح الحياة، وهي نتيجة طبيعية لطبيعة الحياة، ولن تنعدم إلا بانعدام هذه الحياة نفسها، فما دامت الحياة تتنفس، فالابتلاءات والمشكلات تخالط أنفاسها بلا شك!

 

الشيء الذي لا يصح ان يغادر الذهن ان كل ابتلاء لا يخلو من عدل الله، ورحمته، ولا يخلو من الخير، مهما كان وجهه دميماً حسب ما نراه، فالابتلاءات ليست شراً كلها، قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [البقرة: 216]، وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]

فنحن لا نتحدث عن شرٍّ محض حين نتحدث عن عاصفات البلايا، بل ربما احتوت خيراً كبيراً وحظاً وفيراً من سابغات العطايا، ستتجلى حين تتبدد غيوم الهموم، وتشرق الحياة بفرَج الحي القيوم.

 

ولقائل أن يقول: هذا نوع من المبالغة، فالمشكلة تبقى مشكلة، والبلاء بلاء، ويبقى فيه الضيق والشدة والكرب!

أقول: نعم، أنا لا أنفي ذلك، ولكني لا أريد للإنسان أن ينسى الجانب المشرق من الحياة عند الابتلاء، بل ولا يغفل عن الجانب المشرق في ذات الظرف، ففي المصائب التي يبتلي الله بها عباده عدد من الفوائد، نتذاكر هنا بعضاً منها.

 

من إيجابيات الابتلاءات:

 

أولاً- البلايا تكفِّر الزلاَّت.

هل عندك ذنوب؟ هل عندك أخطاء؟ هل ترجو من الله تعالى مغفرتها والعفو عنها؟!

ها هو الله تعالى يسوق لك مغفرته وعفوه مع كل بلاء، وإن توالت عليك الابتلاءات فتأكد أن سيئاتك تزول بزوالها.

واسمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: «مَا يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حَزَنٍ، وَلاَ أذَىً، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَاياهُ».

 

فالمشكلات تشبه الممحاة، يمحو الله بها الذنوب والخطايا، حتى يصفو القلب وترتاح النفس وتسمو الروح، فقد أخرج الترمذي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ، فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ».

فاصبر لكل مصيبة وتجلَّدِ * * * واعلم بأن المرء غير مخلَّد

 

ثانياً- البلاء بوصلة:

قد يكون البلاء أحياناً دليلاً على صلاح الإنسان وعلامة على حسن إيمانه: ففي الحديث: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأَمثَل فالأَمثل،  يُبْتَلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلْباً اشتدَّ بَلاَؤُهُ، وإن كان في دينه رِقَّةٌ ابْتُلِيَ على قدْر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يَتْرُكَهُ يمشي على الأرض وما عليه خَطِيئَةٌ» [الترمذي وأحمد].

ثم إن الله تعالى قد يعاقب عباده بذنوبهم فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حذراً، وأما من سقط من عين الله وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين المعاصي، بل كلما أحدث ذنباً أحدث الله له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عند ربه ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عاقبة معها.

 

ثالثاً- الابتلاءات تنبيهات:

قد يكون للإنسان المنزل الواسع، والمركبة الفارهة، والزوجة الصالحة، والعمل الجيد، والولد البارّ...، يجمع الله له من محاسن الدنيا ما ينسيه ملامح هذه الدار، فتأتي الابتلاءات لتذكر الإنسان بحقيقة الدنيا، وأن السعادة الحقيقية هي سعادة الآخرة، أما سعادة الدنيا فظل زائل، ولا تزيد الدنيا أن تكون دار تعب ونصب وابتلاء وامتحان، ويستحيل أن تجد إنساناً حاز السعادة المطلَقة في هذه الحياة.

كما وإن البلايا تذكّرك بحقيقة نفسك، تذكرك بأنَّك عبد ضعيف، لا حول لك ولا قوَّة إلَّا بربِّك، فتتوكَّل عليه حقَّ التَّوكل، وتلجأ إليه حقَّ الالتجاء، ولا تعتدّ بنفسك وجاهك ومالك ومكانتك، وتبقى دائم اللجوء إلى الله تعالى، وكما يقول سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].

 

قال ابن القيم: (فلولا أنَّه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه إذا أراد بعبدٍ خيراً سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به منه الأدواء المهلكة، حتَّى إذا هذَّبه ونقاه وصفَّاه: أهَّله لأشرف مراتب الدُّنيا، وأرفع ثواب الآخرة) ا.هـ. [زاد المعاد]

 

رابعاً- الابتلاءات فاضحات:

من مزايا البلايا أنها تكشف المعادن المستورة، بعض الناس قد لبسوا جلود الضأن على نفوس الذئاب، ولم تكشف حقيقتهم غير شدة نزلت بهم، ففضحت سرائر نفوسهم لمن حولهم ممن خدِعوا بهم زمناً، وغاصوا بالتعامل معهم في أموالهم وأنفسهم، وهكذا الامتحانات.. تكشف معادن الناس وإن طال ستر الله لهم!

قال الله تعالى: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]: أي نمتحنكم حتى نظهر أخباركم ونكشف حقائقكم.

قال الفُضيل بن عياض: (النَّاس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه).

يقول الشاعر:

جزى الله الشَّدائد كلَّ خير * * * وإِنْ كانت تُغصِّصني بريقـي
وما شُكري لها إلَّا لأنِّي * * * عرفت بها عدوي من صديقي

 

خامساً- البلايا مقدمات العطايا

وأذكر مثالاً سريعاً من بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشكلة حديث الإفك الذي نزل بالسيدة عائشة -رضي الله عنها-، حين أرجَفَ المنافقون عليها افتراءاً عظيماً، اتَّهموها بالفاحشة مع صَفْوان بن المُعطِّلِ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاع الخبر في أرجاء المدينة، وتحدّث الناس بهذا الأمر المرعِب، إلى أن أنزل الله تعالى براءتها في القرآن الكريم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11].

بعد كل هذه الشدة وهذا البلاء الذي أربك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأثار أصحابَه رضوان الله عليهم، وأبكى عائشة رضي الله عنها وأمرضها وحرمها النوم، ورتع فيه المنافقون يرمون عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشفون منه بغيظهم، ينزل القرار الإلهي على صدر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بالحكم المحكم: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ}.

 

نعم، إن المقادير لا تجري إلا بخير، ولو اطَّلعتم الغيب لاخترتم الواقع، فلا يُكثِر أحدنا التَّذمُّر مما هو فيه؛ لأن ما نقع فيه من الخلافات والمشكلات يخبئ وراءه خيراً لنا إذا ما اتقينا وصبرنا، {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].

 

محاور الصدمة النفسية:

تدور الصدمة النفسية في ستة محاور:

 

المحور الأول: تبلُّد المشاعر:

مع تلقي الحدث يكون التفاعل معه منعدماً، وقد يكون ذلك للحظات، وقد يمتد إلى دقائق، وربما لساعات أو أيام.

 

المحور الثاني: الصدمة:

حيث يدرك الإنسان حجم الكارثة، فيتفاعل معها؛ يستغرب، يغضب...

 

المحور الثالث: الإنكار:

يقوم الإنسان بإنكار ما كان، أو بمحاولة التأكد من معلوماته وصحة بياناته، وأن مصالحه أو أحبابه أو من أهمَّه شأنهم من الأشياء والأشخاص والمعاني هم ممن طالهم التهديد.

ومثال الإنكار: الأم حين تحتفظ بثياب ولدها المتوفى، ومثاله أيضاً إنكار سيدنا عمر رضي الله عنه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار فاطمة ابنته على أصحابه أن يحثو التراب على وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم...

 

المحور الرابع: الاحتجاج:

وهنا يبدأ الإنسان ينتقد: لماذا أنا بالذات، ما الذي فعلته يستوجب فعل هذا معي، لماذا فلان وهو صالح ومحبوب، لماذا فلانة وهي جيدة ومؤثرة...؟!

 

المحور الخامس: الكآبة:

هذه المرحلة - على صعوبتها - مبشِّرة من جانب أنها آخر خطوة قبل الخروج من المشكلة، لكن الكارثة أن يقبع فيها الإنسان أكثر من الوقت المفترَض، فتغدو اكتئاباً مرضياً.

فبعض الناس ما إن تنزل به النازلة حتى يستسلم وييأس ويقنط، ناسياً أنَّ بعد كلّ محنةٍ مِنحةٌ، ووراء كلِّ بليَّة عطيَّة، ووراء كلِّ عسر يسرٌ، ووراء كلِّ شِدَّة شَدَّة، ووراء كل ضيق فَرَج.

 

المحور السادس: القبول للواقع:

ومحاولة النسيان وتجاوز العقبة، والعودة إلى الانخراط في الحياة.

 

الخاتمة:

معاينة الابتلاء ليست كالكلام عنه، ومن سمع ليس كمن رأى، ومن رأى ليس كمن جرَّب!

أيَّاً يكن الحال فلا غنى للإنسان عن ربه، فبعض الناس يحيط اليأس به من كل جانب، حتى تستحكم حلقاته ويشتد خناقه، وهذا أمر طبيعي متوقع ما دام العبد يجول في ثنايا هذه الحياة الدنيا، لكن طريقاً واحداً ليس لليأس فيه معراج، ألا وهو الطريق نحو الأعلى، النظر إلى السماء، دفع الهموم ورفعها إلى السيد المالك الذي أذن لها بالنزول أولاً، وهذا الطريق الذي كان يسلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نوازله، فكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمرٌ صلى [كما روى أبو داود]، وقد عدَّ الغفلة عن هذا الطريق من الكبائر، فقد سئل [كما روى الديلمي]: ما الكبائر؟ فقال: «الشرك بالله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله».

ذلك لأن صلة المسلم بربه تجعله دائم الفكرة في هذا السبيل، حتى يعتادَ طرقَ أبوابه والتذللَ بأعتابه والراحة برحابه.

 

بذل الوسع للخروج من حالة اليأس واجبٌ شرعي، مع أن النفس قد تعتاد اليأس، وتميل للوحدة، وتستجلب الألم، ولا تعين صاحبها على الخروج من حاله، بل تعكف على ترسيخ زوايا اليأس في النفس والتلذذ بآلامها.

لكن ترك قيادها في هذا الحال حرام في ديننا، بل عدّ العلماء القنوط من رحمة الله أو من تغيير الحال أو اليأس من زوال الملمات من الكبائر، قال ابن حجر المكي: عَدُّ ذلك كبيرةً هو ما أطبقوا عليه لما ورد فيه من الوعيد الشَّديد، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].

بلا أدنى شك.. في حياة كل منا جانب مضيء وهامش جِدُّ مشرق، فلنُدِر فيه النظر، ولنتردد فيه ونتأمله، ولا ندَع للنفس والشيطان توجيه مركبة حياتنا.. فكل منا هو المسؤول عن نفسه، وعليه أن ينقذها قبل أن يأتي يوم يقول فيه الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].