لا يكاد يخلو عام من الأعوام من أحداث نشاهدها أو نسمع بها عن اعتداءات على المرافق والممتلكات العامة - أو الخاصة بشكل عشوائي - ومؤسسات الدولة والتجهيزات العمومية، وإثارة الشغب والسعي في الفساد والإفساد.

بعضها أحداث كبيرة لا تمرُّ عرَضاً (تفجيرات، إحداث حرائق، تخريب مؤسسات...)، وبعضها أحداث مشابهة من حيث المبدأ؛ ولكنها لا تكاد تذكَر لصغَر أمرِها؛ تعوَّدنا - كمجتمعات - أن نتناولها عرضاً أو نتجاهلها بشكل تام، مثل: (تهشيم أضواء الشارع، تكسير الهواتف العمومية، طمس وتشويه لوحات المرور، تخريب الحدائق العامة ومرافقها وألعابها، إفساد دورات المياه العمومية وإخراجها من الخدمة، إفساد وسائل النقل العامة، تخريب الجدران والطرق ولوحات الإشهار...).

 

 

هذه السلوكيات التي يكاد يتفق المجتمع على أنها لا تتوافق مع أبجديات تربيته ولا تتناسب مع الحد الأدنى من أدبيَّاته، عادة ما ينسبُها لأفراد أو مجموعات مجهولة، ثم تطوى ملفاتها لينجو الفاعل بفعلته ويأمن العقوبة كل مرة.

آخر الأحداث الكبيرة المرعبة التي نعاينُها ونعانِيها اليوم اشتعال النيران في وقت واحد في أماكن مختلفة (31 مكان) من جبال الشمال الجزائري (14 ولاية) كان أشدها في ولاية (تيزي وزو، بجاية، البويرة)؛ حيث اجتاحت ألسنة اللهب الغابات، وحاصرت القرى، وشرَّدت مئات العائلات من منازلهم، وأسفرت عن عدد من الشهداء بلغ عددهم حتى اليوم (65) بين مدني وعسكري.

أكَّدت الحكومة أنَّ كل ذلك كان "مدبَّراً ومفتَعلاً"، وأنه "أعمال إجرامية تخريبية ممنهجة "، دلَّت عليها دلائل عدة أظهرتها التحقيقات الأمنية الأولية.

 

 

هنا يدور في الخَلَد سؤال:

لماذا نرى كل هذه العدائية نحو الأرض والمجتمع؟

 

نعم، ربما هي أعمال تخريبية توجِّهها أياد خارجية، الأمر ليس مستبعَداً! ولكن الانتشار والكثرة والتنوّع يؤكد وجود أياد داخلية تدفعها دوافع إجرامية ولا يمنعها أو يَزعها وازع ديني ولا وطني ولا إنساني!

أظن بأن هذه الدوافع قد تكون نتيجة لحالة مرَضية نفسية، أو أطماع مالية، لكنها غالباً ما تكون نتيجة لأخطاء تربوية أو اجتماعية، حرّشت بين هؤلاء الأفراد وبين مجتمعاتهم، لتترجَم اعتداء على الممتلكات العامة والمرافق العمومية ومظاهر الحياة الطبيعية، أو تؤدي - بالحد الأدنى - إلى سمة "اللامبالاة" في تعريض كل ذلك للأذى والفساد، بسجائر ترمى تارة، أو نار شواء تترَك تارة، أو مُفسدٍ تتغاضى عنه المارّة.

 

تفكرتُ في ذلك، فوجدتُ مرجعه إلى أمور خمسة:

 

أولها - أخطاء تربوية منزلية:

قد يكون العنف فيها مباشراً، مثل: ممارسة العنف المنزلي تجاه الأولاد، أو تركهم لكميات عنف كبيرة يتلقونها من الألعاب الإلكترونية، ومن أفلام الكارتون والآكشن... وقد أظهرت نتائج أبحاث علمية عدة وجود علاقة موجبة بين سمة العدوانية عند الأبناء وبين التنشئة المنزلية والاجتماعية التي تتسم بالضبط والضرب والشتم([1])

 

 

وقد يكون العنف غير مباشر، مثل: التخويف من المجتمع، والضغط على الطفل وكبته اتقاءً لكلام الناس، ومنعه حقوقه بحجة "العيب المجتمعي"...

ومثل ذلك إرهاق الطفل بالمقارنة مع أفراد معينين، أو مع عموم المجتمع (من يفعل مثل ما فعلتَ؟! هل في قسمك أو في مدرستك كلها أحد فشل مثلك؟! لماذا لا تكون مثل باقي الناس؟!...)

أحياناً يفعل الحرمان من التملُّك فعلته في نفس الطفل، ليشبَّ بنوازع انتقامية من ماضٍ لم يحترم حقه في الملكية؛ ليترجَم اعتداء على ممتلكات الغير، أو يكون السبب خلاف ذلك تماماً، فيشبَّ الطفل معتاداً على امتلاك ما يريد وما يشتهي والتصرف بكل ما حوله؛ فقد اعتاد أن يدفع أبواه فاتورة ذلك؛ فيؤدي الإسراف في إرواء دافع التملك إلى عدم احترام ملكية الآخرين وحقوقهم.

 

ثانيها - أخطاء تربوية مدرسية:

فهناك عنف مدرسي لا يخفى؛ نرى مخرجاته بين المتمدرسين (عدوان فيما بينهم نتيجة لعدوان يتعرضون له - حسب مفهوم إزاحة العدوان([2]) -) وكذلك نرى آثار هذا العنف في المنزل جلياً، وللأسف، حتى في بعض المدارس القرآنية هناك من يستعمل العصا كإرث مقدَّس كان السِّر في حفظ القرآن الكريم!

 

 

ومن الأخطاء التربوية الشائعة في المدرسة: التنمر على الطفل، والذي يؤدي إلى كره المجتمع بعد معاناة العزلة والانطوائية والاكتئاب والشعور بالنقص... دون وجود حساب والدي وعقاب إداري مدرسي يشفي للطفل غليله ممن تنمر عليه.

 

 

[قد يهمك: التربية المضادة

 

ثالثها - أخطاء في المحاكمات والتفكير:

فالذي يرى الدولة هي المسؤول الوحيد عن بطالته، وتأخُّر زواجه، وفقره ومرضه، ورسوبه، وتعاطيه المخدرات... وهو غير مسؤول تماماً عن كل ذلك لأنه - بزعمه - ضحية فساد كبير، سيحاول الانتقام بشكل جنوني ممن يراه مسؤولاً عن تعاسته، فينشأ في تخريب ما أنفقَت عليه الدولة أموالاً طائلة، ولكنه في كل مرة - للأسف - لا ينتقم إلا من بني جلدته وشركائه في محلته. 

 

رابعها - مشكلات مرَضية نفسية:

ربما يكون ذلك لأسباب مرَضية نفسية، كالسادية التي يتلذذ أهلها بتعذيب الآخرين.

أو المازوخية (وهي عكسها) يتلذذ فيها الإنسان بتعذيب نفسه، ويعتبر بلده جزءاً من كينونته. [قد يهمك: المازوخية.. ولذة الألم]

أو لعله آلة دفاعية تتمثل في "إزاحة العدوان" كما أسلفت.

أو يندرج ضمن الانحراف السيكوباتي الذي يدفع صاحبه للخروج على القانون، ومخالفة المجتمع ومواجهة قيمه وثقافته العامة، من خلال السرقة، والاغتصاب، والاعتداء على المرافق العامة... ونحو ذلك.

 

خامسها - أطماع مادية:

وتتجلى في مكاسب خاصة وأطماع فردية أو جماعية لوبية على حساب مساحات عامة من الغطاء الغابي في الجزائر - والذي تبلغ مساحته 4 ملايين و100 ألف هكتار-، تحترق لتتحول فحماً جاهزاً لـ "مافيا الفحم".

 

هذه محاولة للفهم والتفسير، لكن الوقوف على الأسباب والدوافع لا يكفي، وتشخيص المرض لا يشفي، نحتاج كلٌّنا - أفراداً وأسَراً ومجتمعاً ودولة - إلى تعاون وتكاتف لمعالجة هذه الظواهر من جذورها، ومنع أسبابها، وتعزيز الرقابة عليها والمسؤولية نحوها، وتشديد العقوبة على المتسببين فيها، ورفع سوية الوعي والمسؤولية لدينا ولدى أبنائنا من خلال الإعلام والمساجد والمدارس ومؤسسات المجتمع المدني، وإلا فإن الفاتورة فيها أرواحٌ وأحبابٌ ووطن!

 


([1]) ينظر: التنشئة الاجتماعية والسلوكات العدوانية مقاربة نفسية اجتماعية متمركزة حول البعد الثقافي.

([2]) وإزاحة العدوان مفهوم نفسي وآلية دفاعية تتمثل في انتقام الشخص ممن اعتدى عليه؛ بتوجيه عدوانه نحو طرف آخر أضعف وأقل تهديداً من الطرف الأصلي الذي مارس العدوان عليه، مثل: الموظف يظلمه مديره فينتقم من المراجعين، والأم يظلمها زوجها فتضرب أولادها...