بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

تفضل الله على هذه الأمة بمعجزة القرآن الكريم، فتمسكت به، وقامت بحفظه، وأكثرَت من قراءته، شيبها وشبابها، كبارها وصغارها، نساؤها ورجالها، كلهم يقرؤون القرآن، يتعاهدونه، يحفظونه، ديمةً أو على مواسم.

لكن هذه القراءة لا تخلو من أخطاء تحفها، ولا تستغني عن آداب تحفظها، ولا يسع الحديث هنا عن جميع ذلك، لكني سأكتفي بذكر ثلاثة محاور رأيتها من أخطاء القرَّاء الشائعة:

1- تضييع آداب القراءة.

2- الاقتصار على القراءة من دون فهم

3- الاقتصار على القراءة من دون عمل

 

1) تضييع آداب القرآن وحقوقه:

على القارئ أن يعلم بأنه ليس كلُّ من يتلو كتاب الله أصبح من الطائعين أو العابدين الزاهدين، وضمن جنة النعيم، بل إن أول من تسعَّر بهم نار جهنم رجلٌ جَمَعَ القُرآنَ، ورجُلٌ قُتِلَ في سبيل الله، ورجلٌ كثيرُ المالِ منفق، كما أخرج الترمذي من حديث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَن اللهَ إِذَا كانَ يومُ القِيامَةِ يَنزِلُ إِلى العِبَادِ ليَقْضِيَ بَينَهُم، وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأوَّلُ مَن يَدعُو به رجلٌ جَمَعَ القُرآنَ، ورجُلٌ قُتِلَ في سبيل الله، ورجلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ اللهُ للقارئ: أَلم أُعَلِّمْكَ مَا أَنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى، يا ربِّ، قال: فماذا عملتَ فيما علمتَ؟ قال: كنتُ أَقومُ به آناءَ الليل وآناءَ النهار، فيقولُ اللهُ لهُ: كَذَبتَ، وتقولُ له الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ لَهُ: بَل أَرَدْت أَن يُقَالَ: فُلانٌ قَارئ، وَقَدْ قِيلَ ذَلِك...» الحديث.

فلا يُغني القرآن مسلماً حفِظَه فضيَّعه، أو تلاه فما تأدب بآدابه، سواء باختلاط نيته، أو بمساوئ فعاله، أو بقلة أدبه مع القرآن، وإن هذا التضييع يورث الحافظ نفاقاً، ويذهب بحلاوة القرآن من قلبه، فلا يجدها أبداً.

 

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (سيَبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرؤونه لا يجدون له لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا: سنبلغ، وإن أساؤوا قالوا: سيُغفر لنا إنا لا نشرك بالله شيئاً!!).

 

والمأمول هو العكس، فكلما نما القرآن في قلب المؤمن نمَت معه أخلاقه الحميدة وأفعاله الرشيدة، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيَه كان أجود بالخير من الريح المرسلة).

وهكذا يترجَم القرب من القرآن سلوكاً طيباً وعملاً خيِّراً.

 

وهذه بعض الآداب السريعة التي يجب على الحفظة الانتباه إليها مع القرآن الكريم:

1. أن يتطهر قبل قراءته: فقد قال تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].

قال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول: (فمِن حُرمة القرآن أن لا يمسَّه إلا طاهراً، ومِن حُرمته أن يقرأه على طهارة، ومن حُرمته أن يستاك ويتحلل فيطيِّب فاه؛ إذ هو طريقه).

وقال يزيد بن أبي مالك: (إن أفواهكم طرق من طرق القرآن، فطهروها ونظفوها ما استطعتم).

2. أن يتلبَّس كما يتلبّس للأمير، بل أفضل؛ لأنه مُناجٍ، وكان أبو العالية -رحمه الله- إذا قرأ اعتمَّ، ولبس وارتدى، واستقبل القبلة.

3. أن يستقبل القبلة لقراءته.

4. أن يمسك عن القراءة إن تثاءب؛ لأنه إذا قرأ فهو مخاطب ربه ومناج، والتثاؤب من الشيطان.

قال مجاهد: (إذا تثاءبت وأنت تقرأ القرآن فأمسك عن القرآن تعظيماً حتى يذهب تثاؤبك).

5. أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم، ويقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم)، إن كان ابتدأ قراءته من أول السورة، أو من حيث بلغ.

6. إذا أخذ في قراءة القرآن لم يقطعها بكلام اللغو مع مَن حوله ساعة فساعة مِن غير ضرورة.

7. أن يخلو بقراءته حتى لا يقطع عليه أحد بكلام فيخلطه بجوابه؛ لأنه إذا فعل ذلك زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء.

8. أن يقرأه على تؤدة وترتيل، وأن يستعمل ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطَب به، وأن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله تعالى، ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه، وأن يؤدي لكل حرف حقَّه من الأداء حتى يبرز الكلام باللفظ تماماً، فإن له بكل حرف عشر حسنات.

9. إذا وضع المصحف أن لا يتركه مفتوحاً، وأن لا يضع فوقه شيئاً من الكتب حتى يكون فوق سائر الكتب، عِلماً كان أو غيره، وأن لا يضعه بالأرض، وإنما بين يديه، أو في حجره.

10. يحرم على الجنب والحائض قراءة القرآن الكريم سواءٌ كان آية، أو أقل منها، ويجوز لهما إجراء القرآن على قلبيهما من غير تلفظ به، ويجوز لهما النظر في المصحف، وإمراره على القلب، والاستماع إلى قراءته.

11. يستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف، ولهذا استحب أن يقرأه في المسجد.

12. يستحب أن يحسن الصوت في قراءة القرآن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» [البخاري]، أي لم يحسن صوته، قال العلماء رحمهم الله: فيستحب تحسين الصوت بالقراءة ترتيلها، ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن أفرط حتى زاد حرفاً، أو أخفاه فهو حرام.

13. أن يكثر من قراءته: قال ابن حجر في فتح الباري عند شرحه حديث: «وكان جبريل يلقاه -أي النبي r- في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن»: (قال النووي: في الحديث فوائد: منها.. استحباب الإكثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعلاه).

وقد نُقِلَ عن الشَّافعي أنه قرأه في رمضان ستين مرةً، في كل يوم ختمتين! وقال الأعرج: كان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف.

ولما حضرت أبا بكر بن عياش الوفاة بكت ابنته، فقال: يا بنية لا تبكى، أتخافين أن يعذبني الله وقد ختمت في هذه الزاوية أربعة و عشرين ألف ختمة!

وقال إبراهيم بن شماس السمرقندي: سمعت إبراهيم بن أبى بكر بن عياش قال: لما نزل بأبي الموت قلت: يا أبت، ما اسمك؟ قال: يا بني، إن أباك لم يكن له اسم، وإن أباك أكبر من سفيان بأربع سنين، وأنه لم يأت فاحشة قط، وأنه يختم القرآن من ثلاثين سنة كل يوم مرة .

وحُفظ على أبي حنيفة أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعين ألف مرة.

14. إذا كان يقرأ فخرجَت منه ريح أمسك حتى تنقضي، ثم إن أحب أن يواصل فليتوضأ، وإن قرأ غير طاهر فلا بأس.

15. أن لا يَغضب فيمَن يَغضب، ولا يَجهل فيمَن جَهل، وفي جوفه كلام الله تعالى، فمن جمع القرآن فقد حمَل أمراً عظيماً، وقد استُدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه.

16. إذا نسي آية كُره أن يقول: نَسيت آية كذا، بل يقول: أُنسيتها، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بئسما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّيَ» [متفق عليه].

 

2) الاقتصار على القراءة دون الفهم:

وما أكثر ما نرى ذلك، يتردد القرآن في فم الحافظ والقارئ، ويقرأ الأية والأيتان، والصحيفة والصحيفتان، وهو شارد لاهٍ، لا يعرف معنى لما يدور بين فكيه.

قال أبو نصر الرملي: أتانا الفضيل بن عياض بمكة فسألناه أن يملي علينا فقال: (ضيعتم كتاب الله وطلبتم كلام فضيل وابن عيينة، ولو تفرغتم لكتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون)، قلنا: قد تعلمنا القرآن، قال: (إن في تعلُّم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم وأولاد أولادكم)، قلنا: كيف؟ قال: (لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه ومحكَمه ومتشابهه وحلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه، إذا عرفتم ذلك اشتغلتم عن كلام فضيل وغيره)، ثم قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

 

وجاء رجل إلى أبي عبيد فقال أوصني، قال: (إذا سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فارعِها سمعك، فإنه خير تُؤمَر به أو شر تُنهى عنه).

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره ما أنزِلَت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه).

هذا حرص سلفنا على فهم القرآن الكريم، ولم يكونوا ليقتصروا على قراءته دون فهمه.

 

3) الاقتصار على القراءة دون العمل:

فالذي يحفظ كتاب الله ويتغافل عن تطبيقه ولا يستنير بضيائه ويجعله نبراس حياته، هو على خطر عظيم؛ لأن الحجة قد قامت عليه والمعرفة قد حصلت له والبينة قد اتضحت.

وعلاج ذلك: أن يقف مع نفسه أولاً ويحاسبها قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ويجتهد في العمل بكتاب الله في شأنه كلِّه حتى لا يقع في مغبة الذين يقرؤون القرآن ولا يعرفون عنه شيئاً إلا حروفه وسوره، ولا يستمتعون بفهم معانيه ولا يتذوقون حلاوته ويرددونه وكأنه شعر أو نثر...

إن العمل بالقرآن هو المقصد الأٍساس الذي نزل القرآن لأجله، فالحفظ ليس غايةً في ذاته، بل هو وسيلة لغاية، فلا تفرِّط بالعمل لأجل الحفظ، ولكن لِتَحْفَظ لأجل العمل، ولهذا كان القرآنُ حجةً للعاملين به، وحجةً على المعرضين عنه، والقرآن حجة لك أو عليك.

 

ويدخل في العمل بالقرآن التخلُّق بأخلاقه، فعلى حافظ كتاب الله أن يكون قرآناً يمشي بين الناس في سلوكه وأخلاقه.

 أخرج بن أبي شيبه في مصنفه عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: (إن هذا القرآن كان لكم ذكرى، وكان لكم أجراً، أو كان عليكم وزراً، فَاتَّبِعُوا الْقُرْآنَ، وَلَا يَتَّبِعْكُمُ الْقُرْآنُ؛ فإنه من يتبَع القرآن يهبط على رياض الجنة، ومن يتَّبعه القرآن فإنه يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم).

وكان دأب الصحابة -كما تعلمون- يحفظون عشر آيات، ثم يطبقونها، ثم ينتقلون إلى غيرها؛ كما حدَّث أبو عبد الرحمن السلمي فقال: حدثنا من كان يقرِؤوننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، ولا يأخذون من العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، فتعلَّمنا العِلم والعَمل معاً.

 

ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول: (كنّا صدرَ هذه الأمّة، وكان الرجل من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معه إلا السّـورة من القرآن أو شبه ذلك؛ وكان القرآن ثقيلاً عليهم، ورُزقوا العمل بـه، وإنّ آخر هذه الأمّة يُخفّف عليهم القرآن حتّى يقرأ الصّبـيّ والأعجمـيّ، فلا يعملون بـه).

وعن مجاهد رحمه الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121] قال: (يعملون بـه حقَّ عمله).

 

وقال الحسن البصري: (قرَّاء القرآن ثلاثة أصناف:

  • صنف اتخذوه بضاعة يأكلون به.
  • وصنف أقاموا حروفه وضيَّعوا حدوده واستطالوا به على أهل بلادهم واستدرُّوا به الولاة!! كَثُر هذا الضَّرب من حملة القرآن لا كثَّرهم الله..
  • وصنف عمدوا إلى دواء القرآن فوضعوه على داء قلوبهم، فركدوا به في محاريبهم، وحنوا به في برانسهم، واستشعروا الخوف فارتدوا الحزن، فأولئك الذين يسقي الله بهم الغيث وينصر بهم على الأعداء، والله لهؤلاء الضَّرب من حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر!).

سألت الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، اللهم انفعنا بالقرآن العظيم، واجعله لنا حجة ومؤانساً وشفيعاً يا رب العالمين، اللهم أسكنَّا به الظُلل وألبسنا به الحلل، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآمنا به من وحشة القبر وعذابه، اللهم ذكِّرنا منه ما أنسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

والحمد لله رب العالمين